بحوث تاريخية واسلامية وسياسية موقع الكاتب مجاهد منعثر منشد (عراقي مستقل )

اهلا وسهلا بزوارنا الكرام تسرنا مساهماتكم وملاحظاتكم

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

بحوث تاريخية واسلامية وسياسية موقع الكاتب مجاهد منعثر منشد (عراقي مستقل )

اهلا وسهلا بزوارنا الكرام تسرنا مساهماتكم وملاحظاتكم

بحوث تاريخية واسلامية وسياسية موقع الكاتب مجاهد منعثر منشد (عراقي مستقل )

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحوث تاريخية واسلامية وسياسية موقع الكاتب مجاهد منعثر منشد (عراقي مستقل )

صاحب الموقع (مواطن عراقي مستقل )

المواضيع الأخيرة

»  رسالة الحاج الشيخ عامر غني صكبان الى قبيلة خفاجة
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالأربعاء سبتمبر 14, 2016 1:46 am من طرف المدير

» العدد السادس اليهود في حركة مايس و الفرهود المفتعل
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالسبت أغسطس 27, 2016 2:33 pm من طرف المدير

» العدد الخامس اليهود اثناء الحكم الملكي في العراق
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالخميس أغسطس 25, 2016 2:14 am من طرف المدير

» العدد الرابع اليهود في ظل الاحتلال الانكليزي على العراق.
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالخميس أغسطس 25, 2016 2:12 am من طرف المدير

» العدد الثالث اليهود في ظل السيطرة العثمانية على العراق .
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالأربعاء أغسطس 17, 2016 4:31 am من طرف المدير

» الحركة الصهيونية والتهجير الاجباري في العراق
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالخميس أغسطس 11, 2016 2:49 am من طرف المدير

» العدد الثاني نبذة مختصرة عن تاريخ يهود العراق القديم
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالأربعاء أغسطس 10, 2016 7:21 am من طرف المدير

» تصريح امير قبيلة خفاجة بشأن الموقف من الشخصيات السياسية والعشائرية
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالثلاثاء أغسطس 02, 2016 6:21 pm من طرف المدير

» العدد الاول دولة الفكر الصهيوني ومسالة القومية اليهودية
الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Emptyالثلاثاء أغسطس 02, 2016 11:45 am من طرف المدير

التبادل الاعلاني

احداث منتدى مجاني

التبادل الاعلاني

احداث منتدى مجاني

    الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية

    المدير
    المدير
    Admin


    عدد المساهمات : 2183
    تاريخ التسجيل : 09/04/2011

    الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Empty الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية

    مُساهمة من طرف المدير الجمعة أغسطس 19, 2011 7:29 am

    الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)
    ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية

    تأليف
    عدنان الحاج كاظم عليان
    كاتب وباحث عراقي ـ لندن



    إعداد
    مكتبة الروضة الحيدرية
    النجف الأشرف




    التوطئة:


    مدخل إلى ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه)

    تهتم الأمم المتحضرة بالتراث والحضارة، وهو ما أوجبت له عقد الندوات والمهرجانات في تواريخ مختارة. وإنّ هذا الاهتمام، أصبح حالة متقدمة، بدأت تهتم به الأمم المتحضرة على نطاق واضح، لتعكس من خلال تجارب شعوبها وعطاءاتها الإنسانية عبر التاريخ والهدف المركز من هذا الاهتمام هو الانفتاح على شعوب الأمم الأخرى ذات الحضارات المتميزة، وبذلك يتقابل تراث الحضارات فيحصل نوع من التمازج الحضاري، والتناغم التراثي، والتلاقح الفكري، مع احتفاظ كل امّة بخصوصياتها.

    وان الندوة العلمية المعقودة عن النجف الأشرف واسهاماتها في الحضارة الإنسانية، لها عبقها ونكهتها المتميزان، ولذلك أكثر من سبب، لأنّ مدينة النجف ليست كأية مدينة من مدن العالم، فهي تتميز على ما سواها كونها جمعت حزمة من العطاءات التراثية والحضارية والروحية والعلمية والجهادية، ذات الأبعاد والمضامين الإنسانية، عبر تاريخها الطويل. لذا جاء انعقاد هذه الندوة في أشهر مدن أورپا وهي (مدينة لندن) في ظرف تتعرض فيه مدينة النجف لحملة (هولاكية) جديدة، تستهدف الفكر والحضارة والتراث العربي والإسلامي، جاء في صميم الأحداث. فلنخبة الأمة من المتصدين لهذه الندوة، التجلة والتقدير الشديدين، وحيث نقف على ريادة هذه المدينة المقدّسة نرى:

    انّ ريادتها لم تقتصر على مدن العراق بل تعدتها لتشمل مدن العالم الإسلامي، حين آل إليها موقعها الديني والتراثي والعلمي من تأثيرات كبيرة على حضارات الأمم الأخرى، إضافة لما آل إليها موقعها التأريخي والسياسي من أهمية


    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 2

    --------------------------------------------------------------------------------



    وتأثير كبيرين على مجمل أحداث المنطقة محلياً وإقليمياً ودولياً، خلال هذا القرن. لذا تمتع المسلمون عامة والشيعة الإمامية الإثنا عشرية بخاصة، في كنف هذه المدينة المقدسة، بالطمأنينة والأمان عبر التاريخ، وبالفخر والاعتزاز حين أصبحت هذه المدينة خلال القرنين الأخيرين محط أنظار العالم، فعدا ما يؤمها من ملايين الزوار، فإنّ عشرات الآلاف كانوا يفدون إليها لطلب العلوم العربية والإسلامية، وبالجهاد والفروسية والفدائية، أصبحت هذه المدينة خلال القرن العشرين، المدينة المجاهدة الأولى، عبر انتفاضاتها وثوراتها على طريق الخلاص من الظلم والظالمين.



    وقفة تقييم لمدينة النجف في عيون أجنبية في التقرير التالي

    "وكانت الأبرز بين مدن العتبات المقدسة هذه مدينة النجف، التي أخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس تأثيراً دينياً وسياسياً هائلاً يتخطى حدود العراق بكثير، وإذ تقع النجف على بعد حوالي 120 ميلاً جنوب بغداد، فإنها أفلتت من السيطرة الحكومية الفعالة طيلة شطر كبير من العهد العثماني، وتجسد وضعها شبه المستقل، وصورتها الذاتية، بوصفها العصب المركزي العظيم للعالم في تصوير الشيعة والكتاب الغربيين لها، على أنها "قلب العالم" وأنها "عالم في مدينة" و "متلقية كل أخبار العالم""(1).

    ولم تأت ريادة هذه المدينة عبر التاريخ الحديث، إنما جاءت ريادتها من عمق التاريخ ونفحاته وصوره المضيئة، وينقل لنا الدكتور فياض حديث الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الصدد، ونص قوله:

    "... هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيّين والمرسلين، وقبور غير النبيّين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد السهلة الذي لم يبعث اللّه نبيّاً إلاّ وصلّى فيه، ومنها يظهر عدل اللّه، ومنها يكون قائمه، والقوام من بعده، وهي منازل النبيّين


    ____________

    1- Great Britain Adminstration Reports for 1918 Najaf, Co 696-1
    Thomas Lyell The Ins and Outo of Mesoptamia (London 1923), 21-22.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 3

    --------------------------------------------------------------------------------



    والأوصياء والصالحين"(1).


    وحين أراد اللّه عزّ شأنه أن تتكامل أهمية هذه البقعة الطاهرة المطهرة، أن تأخذ أبعاداً ومضامين جهادية وسياسية، هيأ لوصيّة الأمين علي (عليه السلام)، أن يتخذ هذه البقعة المباركة مركزاً لولايته، وبعد تلك المسيرة الظافرة للإمام المبين علي، في ترسيم معالم الدولة الإسلامية، وبينما هو منشغل بمسؤولياته في تلك الظروف الدقيقة شاءت إرادة اللّه أن تختم تلك المسيرة باستشهاد الإمام علي(عليه السلام) لتتشرف هذه البقعة المباركة بضم ضريح لجسده الطاهر، فأضاف لهذه المدينة ميزة خاصة، حين اقترن اسم علي باسمها، ووجودها بوجوده، فأصبحت في ضوء ذلك أكثر تفرداً وأعمق تألقاً وأمضى تأثيراً في المسيرة الإنسانية.

    إنّ ضروب سيرة الإمام علي(عليه السلام) تمثل عن جدارة واستحقاق "حضارة أمة في رجل" ولم تأت هذه التسمية من فراغ لأن ضروبها زاخرة بالكثير من العلوم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والفضائل والمحاسن والإنسانية والرحمة والفدائية والإقدام والفروسية والجهاد والزهد والسخاء والكرم والإيثار ومكارم الأخلاق والادارة والسياسة والعقيدة والفلسفة والفقه والتفسير والنحو والصرف وعلم الالهيات والقراءات والكلام والرياضيات والطب والفلك، ولتفرده في جمع صفات الأضداد هذه، استحقت سيرته أن توسم بـ " السيرة المتفردة "، والمتفرد في اللغة تعني الذي لا نظير له. وهكذا أصبح الإمام علي (عليه السلام) أهلا لهذا التفرد، بعد الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). وللّه درّ الشاعر الذي أحسن في تصوير تلك الأضداد في سيرة الإمام، حين قال:

    جمعت في صفاتك الأضداد
    ولهذا عزت لك الأنداد

    زاهد حاكم حليم شجاع
    فاتك ناسك فقير جواد

    شيم ما جمعن في بشر قط
    ولا حاز مثلهنّ العباد

    خلق يخجل النسيم من اللطـ
    ـف وبأس يذوب منه الجماد

    جلّ معناك أن يحيط بك الشعـ
    ـر ويحصي صفاتك النقاد




    لذا كان من الصعب على الباحث الثاقب أن يدرك غايته وينال شأوه، في

    ____________

    1- د. عبد اللّه الفياض: تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، (بغداد 1970م)، ص: 31.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 4

    --------------------------------------------------------------------------------



    الإلمام بأبعاد ومضامين السيرة العطرة لحياة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، فذلك ضرب من المحال، وممّا زاد في أهمية سيرته تلك الاضفاءات الرائدة على سيرته العطرة، كونها سيرة شاركت في صنعها ثلاث اردات، ارداة اللّه في اختيار خلقه، وارادة النبي في شد عضده، وارادة الإمام في كنه نفسه، فتفاعلت الإرادات الثلاث، لتصنع تلك السيرة المتفردة، فاللّه عزّ شأنه يقول في علي (وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْناهُ فِي إِمام مُبِين)(1). ففي ذيل تفسير هذه الآية نقلا عن حبر الأمة ابن عباس، عن الإمام علي حين سُئل عن هذه الآية قال: "أنا واللّه الإمام المبين الذي أبين الحق من الباطل، ورثته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)"(2). ويؤكد (صلى الله عليه وآله وسلم)هذا المعنى قائلا: "إنه الإمام الذي أحصى اللّه تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء"(3). ومع أن سيرته كرّم اللّه وجهه تتناغم مع سيرة الأنبياء، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب"(4). فقد تطابقت سيرته مع سيرة نبيه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)كما أكد ذلك أبو بكر حين رأى علياً فقال: " مَن سرّه أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة من رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وأقربه قرابة وأفضله دالة وأعظمه غَناء عن نبيّه فلينظر إلى هذا"(5).


    وحين يتحدث عمر بن الخطاب عن علي يقول: "واللّه لولا سيف علي لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها"(6).

    ولو وقفنا لبرهة على النص التالي، لما تملكنا مشاعرنا وتحكمنا في مآقي عيوننا، هذا النص الذي قيل في حضرة العدو المخاصم الأوّل للإمام علي، معاوية بن أبي سفيان، ينقله لنا الحافظ أبو نعيم، في حلية الأولياء، فحين دخل الإمامي الجليل (ضرار بن ضمرة الضبابي (رضي الله عنه)) على معاوية بن أبي سفيان، وهو في

    ____________

    1- سورة يس، الآية: 12.

    2- تفسير القمي، في ذيل تفسير الآية نقلا عن عبد اللّه بن عباس.

    3- معاني الأخبار، بإسانده إلى أبي الجارود.

    4- الطبري: ذخائر العقبى، ص: 94.

    5- المتقي الهندي: كنز العمال، ج13 / ص: 114، حديث: 36375.

    6- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج3 / ص: 116.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 5

    --------------------------------------------------------------------------------



    الموسم، قال له معاوية: صف لي علياً، قال: أو تعفيني؟ قال: لابدّ أن تصفه لي، قال: " كان واللّه أمير المؤمنين(عليه السلام)، طويل المدى، شديد القوى، كثير الفكرة، غزير العبرة، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطلق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه، ونحن والله مع قربه لا نكلّمه لهيبته، ولا ندنو منه تعظيماً له، فإن ابتسم فعن غير أشر ولا اختيال، وإن نطق فعن الحكمة وفصل الخطاب، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع الغني في باطله، ولا يوئس الضعيف من حقّه، فأشهد لقد رأيته في بعضه مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تملل السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرضت؟ أم لي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد وطول المجاز وبعد السفر، وعظيم المورد".


    قال: فوكفت دموع معاوية ما يملكها وهو يقول: هكذا كان علي، فكيف خزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزني عليه واللّه حزن من ذبح واحدها في حجرها، فلا ترقأ دمعتها، ولا تسكن حرارتها(1).

    وهكذا شخصية بهذه المواصفات، بقدر ما تجعل الباحث متشوقاً في خوض غمارها، والغوص في أعماقها، بقدر ما يكون متهيباً من ولوجها، خشية عجزه عن رفدها بما تستحق. ورغم اقدامي هذا، إلاّ أنني حينما تصفحت الصحاح الستة ومصادرها المعتمدة، التي وقعت بين يدي، والتي أولت هذه السيرة المتفردة، بالدرس والعناية اللازمتين، شخص أمامي أنه يتعذر عليَّ الإلمام العميق بمكنونات سيرة هذه الشخصية، التي أثرت بصورة واُخرى في المنحى (الانساني الحضاري) ليس الخاص منه فحسب، إنما حتى المنحى الأممي، وهو ما أشار إليه العقاد بقوله: "في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)... لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه

    ____________

    1- أبو نعيم، الحافظ: حلية الأولياء، ج 1 / ص: 84.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 6

    --------------------------------------------------------------------------------



    الخطاب البليغ، في سيرة الأبطال العظماء، وتثير فيه أقوى ما يثير التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل..."(1).


    ووقفة سريعة على جذور الانتساب، يتراءى أمامنا عمق الأصول التي ينتمي إليها الإمام علي (عليه السلام)، فقد جمع الإمام علي المجد من أصوله قبل فروعه، فالأصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والغصن الذي نما بين جوانحه هم بنو هاشم، الذي وصفهم الجاحظ بقطعة بلاغية رائعة تقول إنهم: "ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسرّ كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق ومعدن الفهم، وينبوع العلم"(2).

    فالجد الأكبر هو هاشم، تألق المجد بين يديه، وتنامى نبل الأخلاق في أجوائه، وتجسد شرف القصد، وطهارة الضمير في خلجاته، وترامت المواقف الإنسانية في صومعته، فنال العز والسؤدد في أروع صورهما.

    أما الجد المباشر عبد المطلب، فهو شيبة الحمد، وعنوان المجد، ونقاء القلب، وروعة الإيمان، ووفاء لا يعادل وشرف لا يدانى، صاحب اليدين الكريمتين اللّتين اتجهتا إلى السماء، مصحوبتين بمناجاة اللّه، تلك المناجات التي رددتها أصداء السماء، واستجابت لها: "اللهم إنّ العبد يمنع رحله، فامنع حلالك فالبيت بيتك والقوم قومك"(3). فاستجاب العلي لرجاءه (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول)(4).

    وكان الأب الرؤوف أبو طالب (عبد مناف) شيخ البطحاء، ومهابة الرجال، وعنوان المجد، وسادن الكعبة، وساقي العطاشى من بئر السماء (زمزم)، وناصر الصادق الأمين، في دعوة التوحيد والإيمان، وواهب محمّد القوة والحياة بحمايته من زمرة الكفر والالحاد.

    أما الثمرة المباركة، فهي أوّل ثمرة من أبوين هاشميين، نبتت وتبرعمت

    ____________

    1- عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المقدمة، ص: 5.

    2- ابن أبي الحديد: م. س، المقدمة، ج4 / ص: 4. نقلا عن: زهر الآداب، ج1 / ص: 59.

    3- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 14.

    4- سورة الفيل، الآيات: 3 ـ 5.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 7

    --------------------------------------------------------------------------------



    في رحم فاطمة بنت أسد، السيّدة الفاضلة، بنت عم شيخ الأبطح، وزوجه المصون، وهي الراضية المرضية، التي كرّمها اللّه تكريماً مميزاً، حين أصبحت حاضنة لرعاية سيد الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحين وضعت ابنها علياً في جوف بيت اللّه الحرام، وحين أصبحت من المسلمات المبكرات، وحين كرمها الرسول في موتها، في اعتزاز الأوفياء، حين اضطجع في حفرة قبرها قبل إنزالها بعد أن خلع ثوبه ولفّ به جسدها الطاهر ليخفّف عنها ضغطة القبر، وفي ضوئه نالت فاطمة من اللّه والرسول المكرمات.


    وحتى تكتمل أبعاد هذا الأصل وذاك الفرع وهذا الوليد، تمضي إرادة اللّه في قحط يصيب قريشاً، وعلى ما كان عليه أبو طالب من ضيق اليد وكثرة العيال، شاء التكريم الإلهي أن ينتقل علي ويستقر في كنف رعاية ابن عمه محمّد، وهو ابن ست سنوات، ليبدأ طريق الرحمن في هذه السن المبكرة، وليكون هذا الطريق القنطرة المباشرة في تكامل ترسيم معالم سيرته العطرة عبر أحداث الأمة. هكذا هو المحيط الأسري المثالي، الذي أثمر الينع المبارك علياً، فأعظم به من محيط، وأكرم به من رحم وأسعد به من وليد كرّم اللّه وجهه، وأحسن به من كنف للرعاية المحمدية، على طريق الرحمن، كنجم يصاحب القمر محمّداً، لذا يقول عمر بن الخطاب: "كنّا ننظر إلى علي في أيام النبي كما ننظر إلى النجم"(1). وكان علي يفخر بهذه الصحبة والمعية، وحين يتحدث عنها يقول باعتزاز يغمره: "وقد تعلمون موضعي من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه... وكنتُ أتبعه اتباع الفصيل إثر امه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به..."(2).

    هكذا كانت بداية ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، أما كيف قام هو بترسيم معالم الدولة العربية الإسلامية، فيأتي في أربعة مباحث، وهو أمر نتركه لتوفيق الهيئة المشرفة على هذه الندوة، بنشر البحوث كاملة، كي يطلع ويفيد منها القارئ الكريم. واللّه من وراء القصد.


    ____________

    1- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 25 و 26.

    2- نفس المصدر السابق.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 8

    --------------------------------------------------------------------------------




    المبحث الأوّل
    نشوء الفكر الإمامي السياسي وتكونه،
    وترسيم معالم الدولة الإسلامية حين تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة




    كان النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يضطلع بمسؤوليات الأمة، وكان يمارس السلطات الدينية والمدنية، وبعد أن استتب الأمر وانقطع خبر السماء، وانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أدى الأمانة الإلهية، تحولت السلطات المدنية والدينية إلى الخلفاء الراشدين الأربعة على التوالي، بالصورة والكيفية المعروفة، ورغم ما صاحبها من اجتهادات وتأويلات وتصرفات وتجاوزات في بعض مفاصلها على ما كان عليه صاحب الدعوة، وهو ما سنتناوله باقتضاب شديد، وبما له علاقة مباشرة بمباحث هذه الرسالة، المهم هنا هو أن الفكر السياسي الإمامي مرّ عبر فاصله الزمني، بأربع مراحل حدثية، ساعدت على انطلاقه وتطوره، والمراحل هي:


    المرحلة الاُولى:

    وتمثلها حالة التسارع لاستلام السلطة بمجرد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل بعض الأنصار والمهاجرين.

    وهو ما حصل في "سقيفة بني ساعدة" وما ترتب جراءه من افرازات لاحقة.


    المرحلة الثانية:

    وتمثلها حالة الممارسة المباشرة في المبايعة على رؤوس الأشهاد في (ترشيح وانتخاب) الإمام علي للخلافة والتي حصلت في المسجد.


    المرحلة الثالثة:

    وتمثلها حالة قسوط معاوية بن أبي سفيان عن مبايعة الإمام علي بن أبي طالب، ونكوث بعض المبايعين له، مثل الزبير بن العوام وطلحة، بتشجيع ودعم من عائشة، وتمرد المارقين عليه، وهم الخوارج.


    المرحلة الرابعة:

    وتمثلها حالة المواجهات التصفوية التي حصلت بحق رموز مدرسة الإمامة وأتباعهم من الشيعة الإمامية على عهد الدولتين الأموية والعباسية.

    وخلاصة ما يمكن الخروج به من المرحلتين الاُولى والثانية، في ضوء الفهم الإمامي، أننا أصبحنا أمام حقيقتين ساطعتين هما:



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 9

    --------------------------------------------------------------------------------



    الحقيقة الاُولى: (الأمر السياسي) الذي أعلنه النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في "غدير خم".


    الحقيقة الثانية: (القرار السياسي) الذي اتخذ في "سقيفة بني ساعدة".

    ونحن لا نريد هنا أن نخوض في تفصيلات هاتين الحقيقتين إلاّ بالقدر الذي يتطلبه البحث العلمي، لدعم موجبات تكون "الفكر السياسي الإمامي" فإنّ حالة الإعراض عن (الأمر السياسي) الذي جاء على لسان النبي بدليل اعتماد (القرار السياسي) الذي اعتمد في السقيفة، تجعل من غرس أوّل نبتة للفكر السياسي الإمامي أمراً فرضته تلك الظروف. فـ "الأمر السياسي" حين يكون من نبي لا ينطق عن الهوى، فهو لابد يشكل حالة متطورة عن " القرار السياسي الوضعي " من هذا نشأ بمواجهة هذا " القرار الوضعي " حالة ثالثة متطابقة مع الحالة المتطورة الاُولى، من حيث كون الإمامة هي امتداد للنبوة. ويفسر لنا د. ربيع نظرياً ذلك فيقول: "القرار السياسي هو خاتمة لتطور سياسي، ومقدمة لتطور سياسي آخر"(1).

    لذا نلاحظ بوضوح أن حالتي الاعراض عن "الأمر السياسي" واعتماد "القرار السياسي" وما صاحبهما من اجتهادات وتجاوزات مختلفة، أدى إلى قيام مدرستين سياسيتين وفقهيتين هما:

    1 ـ مدرسة الخلفاء ويمثلها: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان.

    2 ـ مدرسة الإمامة ويمثلها: الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده(عليهم السلام).

    أما ما يمكن أن نخرج به من المرحلتين الثالثة والرابعة فهو:

    1 ـ قيام القاسطين وعلى رأسهم العدو المخاصم معاوية بن أبي سفيان، وقد أدى قسوطهم إلى معركة "صفين" في بلاد الشام، يقول اللّه تعالى: (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(2).

    2 ـ قيام الناكثين وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة، بدفع وتشجيع من عائشة، وقد أدى نكثهم لبيعة الإمام علي إلى معركة "الجمل" في البصرة. ويقول

    ____________

    1- د. ربيع حامد: محاضرات في القرار السياسي في إسرائيل، ص: 3.

    2- سورة الجن، الآية: 15.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 10

    --------------------------------------------------------------------------------



    عزّ من قائل: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(1).


    3 ـ قيام المارقين وعلى رأسهم ثلة من الذين لبسوا الحق بالباطل وقد أدى مروقهم عن الإمام علي (عليه السلام) إلى معركة "النهروان" في العراق. ويقول سبحانه وتعالى: (يُخادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(2).

    وهكذا أصبح امتناع معاوية بن أبي سفيان (والي بلاد الشام) عن مبايعة الخليفة الشرعي خروجاً لا يقومه إلاّ السيف، وحدث ما حدث من قتال في " صفين " وكان الإمام علي(عليه السلام) على رأس جيش الشرعية، أما جيش القاسطين فكان على رأسه معاوية. وختمت المعركة بمهزلة التحكيم المعروفة، حين رفع جيش القاسطين كتاب اللّه فوق رؤوسهم لخداع الأمة، في حين كان النصر قاب قوسين أو أدنى لصالح جيش الشرعية بقيادة علي (عليه السلام)، وقد ولّد هذا الموقف حالة من الاستياء والاستنكار لدى نخبة من المسلمين. ولعل من أهم افرازات هذه الحقبة، تعرية معاوية "دينياً وسياسياً" فحين آلت إليه الخلافة حولها إلى ملك عضوض(3).

    ومن هذا يتضح أن الصراع بين مدرسة الإمامة ومناوئيها، لم يكن صراعاً عابراً، إنما كان في جوهره صراع بين فلسفتين سياسيتين وفقهيتين، متقاطعتين تماماً، في النهج والفعل والأثر. فلسفة ترتبط بالقرآن والسنة والنبوية، ارتباطاً لا انفكاك فيه في إطار التطبيق والممارسة، مثلتها "مدرسة الإمامة" وعلى رأسها الإمام علي(عليه السلام). وفلسفة ترتبط بالدنيا وزبرجها وتتقمص تجاوزاً عقيدة الإسلام، لاضفاء الشرعية عليها وعلى ممارستها، لكنها أقرب لروح الجاهلية منها إلى روح الإسلام، وتمثلها "مدرسة الطلقاء" ومن هم على نهجهم، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.

    وللاستدلال على ذلك لنقارن بين تطلع الفلسفتين صوب السلطة والحكم، ففي الوقت الذي كان الإمام المبين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، على أعلى

    ____________

    1- سورة الفتح، الآية: 10.

    2- سورة البقرة، الآية: 9.

    3- سيد قطب: م.س.، ص: 176.



    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 11

    --------------------------------------------------------------------------------



    جانب من الاستعداد لتولي أمر المسلمين منذ البدء، وبعد تلك المسيرة الطويلة التي تداخلت فيها الاُمور وتشابكت، منذ نزول الوحي والإمام علي يرى نور النبوة وهو في كنف ابن عمّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبدايات الدعوة المحمّدية حين دعـا الرسول عشيرته الأقربين وكان علي أوّل المسلمين، من ثمّ الأتباع والأصحاب، والهجرة إلى المدينة والمؤآخاة، ووضع اللبنات الاُولى لبناء الدولة الإسلامية، حتى حجة الوداع، واعلان الإمامة والولاية لعلي (عليه السلام) ووفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مع بداية عهد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وما تخلله من بعض التجاوزات والاجتهادات، وبالخصوص على عهد خلافة عثمان، وهو ما أدى للثورة عليه وقتله، وهو ما تناولته الكثير من المراجع والمصادر(1). المهم أن تلك الظروف الاستثنائية، جعلت علياً يعزف كل العزوف عن تلبية الدعوة لتولي الخلافة بعد عثمان، وحين كثر عليه الضغط أجابهم كرّم اللّه وجهه قائلا: "دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم منّي أمير"(2).


    وهكذا حاول الإمام علي أن يلتمس العذر كي يتخلص من هذه المسؤولية الجسيمة، في تلك الظروف الدقيقة إلاّ أن اصرار القوم سواء منهم الوافدون من وجهاء مصر والعراق واليمن أو اولئك الوجهاء من أهل مكّة والمدينة، على مبايعته على الخلافة، قد جعله في صميم الأحداث، إلاّ أنه لم يقبل الخلافة إلاّ بعد أن أوقع الحجّة على القوم، أنه سائر على نهج القرآن والسنة النبوية الشريفة، وكانت مبايعته وانتخابه على رؤوس الأشهاد في المسجد، لذا قال كرّم اللّه وجهه

    ____________

    1- ـ د. طه حسين: م. س. ص: 77 و 94.

    ـ البلاذري: أنساب الأشراف، ج5 / ص: 27، 28، 52.

    ـ د. نوري جعفر: علي ومناوئوه، ص: 90 و99.

    ـ أحمد الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ج2 / ص: 78، 87.

    2- ابن أبي الحديد: م. س.، ج1 / ص269 ـ 270.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 12

    --------------------------------------------------------------------------------



    قولته المشهورة: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك"(1).


    أما الاستدلال على نهج مدرسة الطلقاء فنشير هنا إلى مقولات معاوية رأس هذه المدرسة وهو يفضح نفسه فيما يخص كيفية توليه أمر الخلافة، وجعلها ملكاً عضوضاً، فيقول: "... لا بمحبة وليتها، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"(2)، و"الأرض للّه وأنا خليفة اللّه، فما أخذ من اللّه فهو لي وما تركت منه كان جائزاً لي"(3).

    لذا يرى الدكتور الدوري: أنّ انتصار الأمويين يعني انتصار التيار القبلي على التيار الديني(4).

    وحين يحدثنا العقاد عن مكنون نفس معاوية يقول: " لم يكن معاوية زاهداً في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان لكن الخلافة كانت زاهدة فيه. فلما جاء عصر الملك طلب الملك، والملك طلبه"(5).

    ويعقب المستشرق فلهاوزن، على هذا النهج قائلا: "وكان من السخرية بفكرة الحكومة الثيوقراطية، أن يظهر الأمويون ممثليها الأعلين، فهم كانوا مغتصبين وظلوا كذلك، ولم يكونوا يستندون إلاّ إلى قوتهم الشخصية، إلى قوة أهل الشام ولكن قوتهم لم تستطع قط أن تصير حقاً شرعياً"(6).
    المدير
    المدير
    Admin


    عدد المساهمات : 2183
    تاريخ التسجيل : 09/04/2011

    الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Empty رد: الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية

    مُساهمة من طرف المدير الجمعة أغسطس 19, 2011 7:32 am

    وحين يحدثنا الدكتور نوري جعفر عن معاوية يقول: "إن سياسة معاوية كانت سياسة ووصولية انتهازية، تسير على المبدأ القائل بأن الوسائل تبررها الغايات..."(7).


    ____________

    1- محمّد مهدي شمس الدين: دراسات في نهج البلاغة، ص: 260.

    2- العقد الفريد، ج4 / ص: 147.

    3- جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية / علي والقومية العربية، (ط 1، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1970م)، ص: 101.

    4- د. عبد العزيز الدوري: (بغداد 1950م).

    5- عباس العقاد: م. س.

    6- فلهاوزن: تاريخ الدولة العربية، ص: 60.

    7- د. نوري جعفر: علي ومناوئوه، (مؤسسة الوفاء، بيروت 1982م)، ص: 211.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 13

    --------------------------------------------------------------------------------



    وكان معاوية بن أبي سفيان أوّل من سنّ سنّة خبيثة في قذف المسلمين(1)، وكان هدفه منها سياسياً محضاً، كون أن مستهدفه الأوّل في هذه السنة هو الإمام علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه. فلنلاحظ في هذا الصدد المقارنة بين موقف الطرفين، من هذه البدعة السياسية التي لا تتصل بالدين بشيء، والتي حاربها الإسلام ونهى عنها. فحين يحدثنا ابن أبي الحديد عن موقف معاوية من علي، يقول: " روى أبو الحسن علي بن نوح بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية إلى عماله بعد عام الجماعة، أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب(2) أهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته"(3).


    ففي حين كان معاوية يأمر عماله وأتباعه ووعاظه، بسب علي ولعنه من على المنابر، كان علياً يعنف أصحابه مثل حجر بن عدي وعمر بن الحمق، حين سمع أنهم كانوا يردون باسلوب الشتيمة كما عمل معاوية وأتباعه، وجسد الإمام في هذا الموقف عفة اللسان وحسن التواضع للّه، مؤكداً على جماعته أن يقولوا: "اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي من لج به"(4).

    إنّ من أهم ما يمكن استنتاجه من هذه الأحداث انه: رغم ما ذهب في هذه الالتحامات من قتلى، بين شهيد وقتيل، والتي كانت في صميم الصراع السياسي، فقد تركت هذه المعارك علاوة على ذلك بصمات سوداء في تاريخ الأمة، لأنها مثلت لأول مرة (خروجاً منظماً) ضد الشرعية. إلاّ أن الواقع أثبت أن الأطروحة الإمامية السياسية، التي أخذت طريقها في عهد نبوة محمّد ورسالته، قد تعمقت في خلافة علي وتعزز موقعها جراء تلك الأحداث، وجراء المظالم التي حلّت بأهل البيت وشيعتهم على عهدي بني أمية وبني العباس. وكما كانت المواجهة

    ____________

    1- عبود الشالجي: موسوعة العذاب (ط 1، الدار العربية للموسوعات بيروت، لا.ت) ص:17.

    * أبو تراب: كنية كنّى بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام)، وكانت من أحب الكنى إلى نفسه وروحه.

    3- ابن أبي الحديد: م. س.، ج3 / ص: 16.

    4- عبود الشالجي: م.س.، ص: 17، نقلا عن: الأخبار الطوال، ص: 165.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 14

    --------------------------------------------------------------------------------



    الإمامية تأخذ أبعاداً مختلفة من التصعيد، مع تصاعد ظلم بني أمية وبني العباس، وجورهم بحق بيت النبوة وشيعتهم، كان الفكر الإمامي السياسي هو الآخر يأخذ أبعاداً لها مدلولاتها، في اطار التعامل مع الأوضاع الجديدة التي توالت على الأمة.


    لذا أصبحت أحداث استشهاد الإمام علي وولديه الحسن والحسين(عليهم السلام)، ضمن الزمن الذي استغرقته وما تخللتها من ممارسات تجاه الشيعة وأئمتهم تمثل مرحلة التضحية المخضبة بالدم، لصون قيم التشيع ووضع الفكر الإمامي السياسي على الطريق. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التجسيد الفعلي للأطروحية الإمامية، وتكريس الفكر الإمامي السياسي، وقد اضطلع بها بقية الأئمة الأطهار، آخذين بنظر الاعتبار تميز إمامة الصادق في مقطعها الزمني الذي استغرقته، بما توفرت بين يديه من ظروف مناسبة سهلت مهمته.

    وكما كان الفكر الإمامي السياسي في حالة تصدٍّ ومواجهة ضد الظلمة من الحكام الأمويين والعباسين، فإنه في تاريخه المعاصر يشكل حالة متقدمة ضد الهيمنة والتبعية الأجنبية، وضد الاحتلال بكل أشكاله، وهو بنفس الوقت لا يستكين لحكام الجور وأنظمة الفساد والافساد، ولا يجيز الركون إليهم أو مهادنتهم مقتدياً قولا وفعلا بالآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

    ويقول الراغب الأصفهاني في تفسيره لهذه الآية أن "المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه، والمنكر ما ينكر بهما"(2). أي ما ينكره في ضوء ذلك العقل والشرع.

    واستناداً إلى الآية الكريمة صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نهجاً ثابتاً في الفكر الإمامي السياسي، عدا كونه واجباً عبادياً لحماية الدين، فعن طريقهما تتم عملية تبليغ الأحكام الشرعية بما يرشد الإنسان إلى فعل الخير ومكافحة الشر ومن خلالهما تخلق حالة التصدي للظلم والاستبداد. لذا نلاحظ أن الفكر الإمامي السياسي، ومنذ البدايات الاُولى، وأهله لا زالوا يخوضون معارك من كل نوع، من أجل هذه المبادئ والأخلاق العربية والإسلامية.


    ____________

    1- سورة آل عمران، الآية: 104.

    2- الحسين بن محمّد الراغب الأصفهاني: معجم مفردات القرآن، مادة: عرف، ص: 331.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 15

    --------------------------------------------------------------------------------




    المبحث الثاني
    سياسة الإمام علي المالية، وترسيم معالم الدولة الإسلامية المالية
    في ضوء التطبيقات التي اعتمدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
    وأبو بكر وعمر وعثمان




    من أجل أن يكون بحثنا مستوفياً شروطاً العلمية، كان لابدّ من الاشارة إلى أن ماهية الاقتصاد الإسلامي في بدايات تكون الدولة الإسلامية، لم تكن كما هو متعارف على ماهية الاقتصاد الإسلامي كمذهب اقتصادي، وكذا المذاهب الاقتصادية الوضعيّة. ورغم التطور الحاصل اليوم في طبيعة ماهية المذهب الاقتصادي الإسلامي، كما جاء به الشهيد الصدر(1) مقابل المذاهب الأخرى، إلاّ أن هذا المذهب الاقتصادي، لم يأخذ حظه في حياة المسلمين، لعدم اعتماده من أي من النظم في العالم الإسلامي، والذي يمكن أن يهيء مثل هذه الفرصة في التطبيق والممارسة.

    كانت بدايات تكون الاقتصاد الإسلامي، على عهد النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدايات تكوينية إذا ما وضعنا مرتكزاته، بالمقارنة مع مرتكزات مذاهب الاقتصاد الحديثة، لكنها كانت بحق في صميم الحاجات، كانت بدايات عملية هادفة، إلاّ أن تلك البدايات كانت أقرب للسياسة المالية منها للاقتصاد بمفهومه المتعارف عليه اليوم. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا يضع اللبنة الاُولى لاقتصاد متكامل بكل أبعاده ومضامينه، كما هو متعارف عليه اليوم، ولكن بصورة مختلفة تماماً كون أن الاقتصاد الإسلامي هو (اقتصاد إنساني متكافل) تحكمه حزمة من القواعد والتشريعات القرآنية، ومحاطاً في إطار التطبيق والممارسة بمكارم الأخلاق، ولو وقفاً على طبيعة توزيع الأموال على المسلمين، في صدر الإسلام الأوّل، وهو موضوع هذا المبحث، لوجدنا أنها تتمثل في ثلاثة أبعاد هي:


    ____________

    1- ألّف المفكر الإسلامي الكبير الشهيد محمّد باقر الصدر(رحمه الله)، مجموعة من الكتب تعالج قضايا إسلامية معاصرة، وكان من أهمها فيما يخص موضوعنا كتاب يمثل النظرية الإسلامية، في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مقارنة مع المذاهب الاقتصادية الوضعيّة، عنوانه "اقتصادنا".




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 16

    --------------------------------------------------------------------------------




    البعد الأوّل: الوجه المكتمل:

    وهو الوجه الذي مثلته الفترة الرسالية، بقيادة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعد أن مارس الرسول دوره الرسالة الريادي في اشباع النفوس المسلمة بالعقائد التوحيدية والإيمانية، ابنرى للعمل على مستوى البناء التكويني للأمة ودولتها، وفق القواعد الإلهية التشريعية.

    والذي يهمنا هنا هو الأبعاد والمضامين الاجتماعية والاقتصادية، فقد كان هدف الإسلام هو بناء علاقات اجتماعية وانسانية خالية من الظلم لقول تعالى: (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ)(1). وبعيدة عن الباطل لقوله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)(2). لذا نلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل من العدل سبيلا لرفع الظلم استناداً لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ)(3). وجعل من الحق دامغاً للباطل لقوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(4). وجعل من التقوى معياراً للتكرم والمفاضلة لقوله تعالى: (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ)(5).

    وامتاز الإسلام باعتباره ديناً عالمياً لقوله تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(6). لذا حارب الإسلام التفرقة العنصرية لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى"، فكان سلمان الفارسي "منا أهل البيت" وبلال الحبشي مؤذناً للرسول، وصهيب الرومي ورافع القطبي من الأصحاب المقربين لرسول اللّه كما حارب الطبقية لقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(7). وكرّس بناء علاقات اجتماعية وانسانية قائمة على التكافل والتكامل وفقاً لقاعدة: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته".


    ____________

    1- سورة آل عمران، الآية: 57.

    2- سورة ص، الآية: 27.

    3- سورة الحديد، الآية: 25.

    4- سورة الأنبياء، الآية: 18.

    5- سورة الحجرات، الآية: 14.

    6- سورة الأنبياء، الآية: 107.

    7- سورة الحشر، الآية: 7.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 17

    --------------------------------------------------------------------------------



    الأمر المهم هنا أن النبي بعمق بصيرته أدرك أن أساس اقتصاد الأمة هو (المال) ورغم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تعامل مع مفردات اُخرى هي في صلب مكونات الاقتصاد، إلاّ أنه أولى مفردة المال اهتماماً خاصاً. ونلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حريصاً كلّ الحرص بمحافظته على المال العام، فوجه خطابه وأوّل ما وجهه إلى عشيرته وأهله الأقربين، ليجعل من هذا الخطاب حالة متقدمة، وعبرة للأمة في موقف الاهتمام والحرص الشديدين على أموال المسلمين فقال: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من اللّه شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من اللّه شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئاً، يا صفية عمة رسول اللّه لا أغني عنك من اللّه شيئاً، ويا فاطمة بنت محمّد سليني من مالي لا أغني عنكِ من اللّه شيئاً"(1). وهذا التحذير أصبح بمثابة القاعدة الثابتة للمحافظة على أموال المسلمين.


    ويعزى سبب اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الجانب، إلى أن الأموال والثروات إنما هي ملك للّه تعالى، وقد استخلف عليها الإنسان، ووضع لهذا الاستخلاف شروطه وحدوده، لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ)(2).

    هذه القاعدة شملت المال بصورته المطلقة سواء الخاص منه أو العام، لذلك كان حرياً بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبادر وأوّل ما يبادر إلى سنّ قاعدة حفظ الأموال العامة، وهو ما فعله مبكراً، من حيث أن الأموال تخص جموع المسلمين، وكانت قناة المال العام المركزية في صدر الإسلام الأوّل، ما كان يأتي لبيت المال من غنائم الفتوحات، وما يفرض من جزية. أما الأموال الخاصة المتحققة للأفراد من تعاطيهم الأعمال الحرة من تجارة ومهن مختلفة، فقد أوجب عليها الإسلام فرائض كثيرة لتكون القناة الثانية، لجباية الأموال لبيت المال، منها: الخمس لقوله عزّ من قائل: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي

    ____________

    1- سيّد قطب: م. س.، ص: 84.

    2- سورة الأنعام، الآية: 165.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 18

    --------------------------------------------------------------------------------



    الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(1). والزكاة لقوله سبحانه وتعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(2). والانفاق الواجب لقوله تعالى: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)(3). والانفاق المندوب لقوله تعالى: (أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ)(4). والوراث المادي وما يترتب عليه من حقوق الثلث، وحقوق ذوي القربى، ومن حضر القسمة، لقوله تعالى: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ...)(5).


    وحتى يصار إلى تنفيذ ارادة اللّه في خلقه وفق تلك القواعد والأحكام، توالت الآيات على المسلمين بخصوص طاعة الرسول وتنفيذ أوامره، وعدم الخروج عنها كقوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(6). (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(7). (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى)(8). ووفق القاعدة الإلهية التي سبق الاشارة إليها، لم تكن أموال المسلمين كما شرعها اللّه ورسوله بدون هدف، بل إنها كانت في صميم الأهداف التي تقي المسلمين شر الفاقة والحرمان والعوز، كي تستمر الحياة الإنسانية نحو تحقيق أهدافها في خلق مجتمع قائم على "العدل والاكتفاء والتوازن "، لا طبقية فيه ولا استغلال. لذا نلاحظ أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخر وسعاً في انصاف المسلمين، حين تحضر أوقات العطيات وتوزيع الأموال، فلم يفرق النبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين كبير وصغير وبين أسود وأبيض، وذكر وانثى، وقريب وبعيد، وحر ومولى، بل كان مبدأ المساواة بين الجميع هو الأساس الذي لا رجعة عنه، فلا محاباة لأحد ولا تمييز. هكذا كان "البعد المتكامل" الذي مثله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الجانب، يمثل الوجه المشرق لبناء مجتمع "العدل والاكتفاء والتوازن".


    ____________

    1- سورة الأنفال، الآية: 41.

    2- سورة النساء، الآية: 77.

    3- سورة البقرة، الآية: 237.

    4- سورة البقرة، الآية: 254.

    5- سورة النساء، الآيات: 7 ـ 12.

    6- سورة الأحزاب، الآية: 21.

    7- سورة الحشر، الآية: 7.

    8- سورة النجم، الآية: 3.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 19

    --------------------------------------------------------------------------------




    البعد الثاني: الوجه المتجزئ:

    وهو البعد الذي مثله أبو بكر وعمر وعثمان. أما تسميته بالوجه المتجزئ فمرده إلى أنه بعد انتقال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، نحت بعض النفوس المسلمة منحى ابتعدوا فيه في بعض المواقف عن المسيرة الرسالية، حين نزعت تلك النفوس إلى التأويل والاجتهاد في بعض اُمور المسلمين، مبتعدة عن الأحكام الصريحة والسنن الثابتة، وسنقصر الكلام على ما يخص هذا البحث.

    فحين تولى الخلافة بعد رسول اللّه، أبو بكر لم يحد عن سيرة نبيّه ورسوله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في توزيع الأموال والعطيات على المسلمين بالتساوي، وللتدليل على ذلك نثبت هنا الموقف الخلافي الحاصل بين أبي بكر وعمر بن الخطاب بخصوص توزيع العطيات والأموال، كما أورده المفكر الإسلامي سيد قطب، حيث يقول: "وقد حدثت في عهد أبي بكر سابقة اختلف عليها هو وعمر، فقد رأى أبو بكر أن يسوي في القسمة بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام، وبين الأحرار والموالي، وبين الذكور والإناث، ورأى عمر مع جماعة من الصحابة أن يقدم أهل السبق في الإسلام، على قدر منازلهم، فقال أبو بكر: أما ما ذكرتم من السواق والقدم والفضل، فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيء ثوابه على اللّه جلّ ثناؤه وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة"(1).

    وعن بذل وعطاء أبي بكر من أمواله الخاصة، نورد هذا الموقف من الدليل التاريخي، يحدثنا عنه قطب قائلا: "فهذا أبو بكر كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته، وقد ربح الكثير من التجارة بعد اسلامه، فلما هاجر إلى المدينة مع صاحبه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن قد بقي له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم، لقد أنفق ماله المدخر في إفتداء الضعفاء من الموالي المسلمين، الذي كانوا يذوقون العذاب ألواناً من سادتهم الكفار، كما أنفقه في بر الفقراء المعوزين"(2).

    وهكذا حافظ أبو بكر طيلة مدة خلافته على سنّة رسوله بخصوص توزيع

    ____________

    1- سيد قطب: م. س.، ص: 170.

    2- سيّد قطب: م. س.، ص: 150.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 20

    --------------------------------------------------------------------------------



    العطيات والأموال بالتساوي بين المسلمين، دون أن ينصاع لوجهات نظر الآخرين كما تقدم، وكان أبو بكر في صميم البعد ذو الوجه المكتمل، الذي عمل به نبيّه محمّد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص.


    أما الخليفة الثاني عمر والذي سمى من قبل الخليفة الأوّل أبو بكر، قبل أن يدركه الأجل بحين، فقد كانت له اجتهاداته وتأويلاته، كما ثبت ذلك في كتب الصحاح والتاريخ والتراجم. وما يهمنا هنا هو الجانب الذي يخص بيت المال. ففي الممارسة الاُولى، كان للخليفة عمر منحىً مستقل تماماً، عما عُمل فيه في عهدي الرسول وأبي بكر، بخصوص توزيع الأموال والحقوق على المسلمين، فقد أشار إلى ذلك أبو يوسف في كتاب الخراج فقال:

    "وحدثني شيخ من أهل المدينة، عن اسماعيل بن محمّد السائب، عن زيد عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: واللّه الذي لا إله إلاّ هو، ما أحد إلاّ وله في هذا المال حق أعطيه أو أمنعه، وما أحد أحق به من أحد إلاّ عبد مملوك، وما أنا إلاّ كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب اللّه عزّ وجلّ، وقسمنا من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم). فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، واللّه لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو في مكانه قبل أن يحمر وجهه..."(1).

    وفي ضوء هذه القناعات سار عمر مخالفاً سلفيه الرسول وأبا بكر، ففي كتاب الفاروق، ثبت هيكل القواعد التي وضعها عمر لتوزيع المال، يقول هيكل: "... ثمّ انه فرض لكل رجل شهد بدراً خمسة آلاف درهم في كل سنة وفرض لكل مَن كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة ومَن شهد أُحد أربعة آلاف درهم في كل سنة، وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين، إلاّ حسناً وحسيناً، فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول اللّه ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم، وفرض لكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكل رجل من مسلمة الفتح ألفين، ولغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الفتح. وفترض الناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم. ثمّ جعل

    ____________

    1- أبو يوسف: كتاب الخراج.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 21

    --------------------------------------------------------------------------------



    مَن بقي من الناس باباً واحداً ففرض لمَن جاء من المسلمين إلى المدينة وأقام بها خمسة وعشرين ديناراً، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق ألفين إلى ألف وخمسمائة إلى ثلاثمائة، ولم ينقص أحداً عن ثلاثمائة. وقال: لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم ألف لسفره، وألف لسلاحه، وألف يخلفها لأهله، وألف لفرسه وبغله"(1).


    ولم يستمر عمر على هذه القواعد بل خرج عنها، حيث يقول هيكل: "غير انّ عمر خرج عن القاعدة التي وضعها لتنظيم العطاء، في أمر رجال ونساء زاد في عطائهم على عطاء أمثالهم ممن في طبقتهم. فرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف درهم، وعمر هذا هو ابن ام سلم أم المؤمنين، وقد اعترض محمّد بن عبد اللّه بن جحش، وقال لأمير المؤمنين: لم تفضل عمر علينا؟ فقد هاجر آباؤنا وشهدوا، فأجاب ابن الخطاب بقوله: أفضله لمكانه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فليأتني الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه. وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم، فقال عبد اللّه بن عمر: فرضت لي ثلاثة آلاف وفرضت لأسامة أربعة آلاف، وقد شهدتُ ما لم يشهد اسامة، وأجابه عمر: زدته لأنه كان أحب إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) منك، وكان أبوه أحبّ إلى رسول اللّه من أبيك، وفرض لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر ألف درهم ولأم كلثوم بن عقبة ألف درهم، ولأم عبد اللّه بن مسعود ألف درهم، فزادهن على أمثالهن لمكانتهن الخاصة، إذ كنّ أزواجاً وامهات لرجال لهم على غيرهم منزلة وفضل"(2).

    وقد خلفت التطبيقات المالية التي أقدم عليها عمر آثاراً متفاوتة منها:

    1 ـ إنها خلقت وأوّل ماخلقت درجة من الاستياء في نفوس الملسمين نتيجة مبدأ "المفاضلة" بين المسلمين، رغم أن عمر خصها في اناس سواء لمنازلهم وخدماتهم للإسلام والمجتمع أو لمواصفاتهم المتقدمة بين المسلمين.

    2 ـ إنها ساعدت بصورة واُخرى على تنامي بذور الطبقية بين المسلمين، كمحصلة طبيعية لتراكم الأموال والثروات بين يدي بعض المسلمين، لاسيّما عند

    ____________

    1- محمّد حسين هيكل: الفاروق عمر.

    2- محمّد حسين هيكل: الفاروق عمر.




    --------------------------------------------------------------------------------
    الصفحة 22

    --------------------------------------------------------------------------------



    الأغنياء منهم.


    3 ـ إنها كانت سبباً قوياً ومبرراً مشجعاً للخليفة الذي جاء بعد عمر، وهو عثمان بن عفان، مع ما لديه من استعداد ليوغل في هذا الأمر، على نقيض القواعد التي وضعها عمر. ورغم أن الخليفة عمر أدرك في أخريات حياته، وقبل أن يتولى عثمان الخلافة، أدرك خطأ اجتهاده في هذا الصدد، وكان عازماً على الغائه لذا كان يقول: "وإن عشت هذه السنة، ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعتُ كما صنع رسول اللّه وأبو بكر"(1).

    إلاّ أن نهج عمر هذا في توزيع العطيات قد خلق وضعاً متبايناً في التطبيق والممارسة والنتائج كما تقدم، مع ما كان معمولا به على عهد سلفيه (النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والخليفة أبي بكر) غير أن عمر رغم اجتهاده هذا، كان حريصاً كل الحرص على أموال المسلمين، وكان صارماً في تطبيق من أين لك هذا؟ فمن خلال الدليل التاريخي نذكر هذا الموقف الذي جسّد فيه تطبيق أهم مبادئ المحافظة على أموال المسلمين. يقول ابن أبي الحديد: "روى الزبير بن بكار، قال: لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم، من ناطق وصامت، فكتب إليه أما بعد، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن استعملك فأنّى لك هذا...؟! فواللّه لو لم يهمني في ذات اللّه إلاّ من اختان في مال اللّه لكثر همي واستتر أمري ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين مَن هو خير منك، ولكنّي قلدك رجاء غنائك، فاكتب إلى من أين لك هذا المال؟ وعجّل"(2).

    وللتدليل على زهد عمر بالمال وزبرج الحياة، نذكر لكم هذه الواقعة، التي يحدثنا عنها سيّد قطب، فيقول: "وهذا عمر بن الخطاب يصيب أرضاً بخيبر، فيجيء رسول اللّه فيقول: أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالا قط انفس عندي منه، فما تأمر به؟ فيجيبه الرسول: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فيجعلها عمر وقفاً على الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل اللّه والضعيف، لا جناح على

    ____________

    1- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج2 / ص: 107.

    2- ابن أبي الحديد: م. س.، ج1 / ص: 174، 175.

    المدير
    المدير
    Admin


    عدد المساهمات : 2183
    تاريخ التسجيل : 09/04/2011

    الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية  Empty رد: الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية

    مُساهمة من طرف المدير الجمعة أغسطس 19, 2011 7:35 am

    نكملة البحث على هذا الرابط
    http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_29/najaf21.html

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 1:44 pm