الإمام علي بن أبي طالب (كرمه اللّه وجهه)
ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية
تأليف
عدنان الحاج كاظم عليان
كاتب وباحث عراقي ـ لندن
إعداد
مكتبة الروضة الحيدرية
النجف الأشرف
التوطئة:
مدخل إلى ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه)
تهتم الأمم المتحضرة بالتراث والحضارة، وهو ما أوجبت له عقد الندوات والمهرجانات في تواريخ مختارة. وإنّ هذا الاهتمام، أصبح حالة متقدمة، بدأت تهتم به الأمم المتحضرة على نطاق واضح، لتعكس من خلال تجارب شعوبها وعطاءاتها الإنسانية عبر التاريخ والهدف المركز من هذا الاهتمام هو الانفتاح على شعوب الأمم الأخرى ذات الحضارات المتميزة، وبذلك يتقابل تراث الحضارات فيحصل نوع من التمازج الحضاري، والتناغم التراثي، والتلاقح الفكري، مع احتفاظ كل امّة بخصوصياتها.
وان الندوة العلمية المعقودة عن النجف الأشرف واسهاماتها في الحضارة الإنسانية، لها عبقها ونكهتها المتميزان، ولذلك أكثر من سبب، لأنّ مدينة النجف ليست كأية مدينة من مدن العالم، فهي تتميز على ما سواها كونها جمعت حزمة من العطاءات التراثية والحضارية والروحية والعلمية والجهادية، ذات الأبعاد والمضامين الإنسانية، عبر تاريخها الطويل. لذا جاء انعقاد هذه الندوة في أشهر مدن أورپا وهي (مدينة لندن) في ظرف تتعرض فيه مدينة النجف لحملة (هولاكية) جديدة، تستهدف الفكر والحضارة والتراث العربي والإسلامي، جاء في صميم الأحداث. فلنخبة الأمة من المتصدين لهذه الندوة، التجلة والتقدير الشديدين، وحيث نقف على ريادة هذه المدينة المقدّسة نرى:
انّ ريادتها لم تقتصر على مدن العراق بل تعدتها لتشمل مدن العالم الإسلامي، حين آل إليها موقعها الديني والتراثي والعلمي من تأثيرات كبيرة على حضارات الأمم الأخرى، إضافة لما آل إليها موقعها التأريخي والسياسي من أهمية
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 2
--------------------------------------------------------------------------------
وتأثير كبيرين على مجمل أحداث المنطقة محلياً وإقليمياً ودولياً، خلال هذا القرن. لذا تمتع المسلمون عامة والشيعة الإمامية الإثنا عشرية بخاصة، في كنف هذه المدينة المقدسة، بالطمأنينة والأمان عبر التاريخ، وبالفخر والاعتزاز حين أصبحت هذه المدينة خلال القرنين الأخيرين محط أنظار العالم، فعدا ما يؤمها من ملايين الزوار، فإنّ عشرات الآلاف كانوا يفدون إليها لطلب العلوم العربية والإسلامية، وبالجهاد والفروسية والفدائية، أصبحت هذه المدينة خلال القرن العشرين، المدينة المجاهدة الأولى، عبر انتفاضاتها وثوراتها على طريق الخلاص من الظلم والظالمين.
وقفة تقييم لمدينة النجف في عيون أجنبية في التقرير التالي
"وكانت الأبرز بين مدن العتبات المقدسة هذه مدينة النجف، التي أخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس تأثيراً دينياً وسياسياً هائلاً يتخطى حدود العراق بكثير، وإذ تقع النجف على بعد حوالي 120 ميلاً جنوب بغداد، فإنها أفلتت من السيطرة الحكومية الفعالة طيلة شطر كبير من العهد العثماني، وتجسد وضعها شبه المستقل، وصورتها الذاتية، بوصفها العصب المركزي العظيم للعالم في تصوير الشيعة والكتاب الغربيين لها، على أنها "قلب العالم" وأنها "عالم في مدينة" و "متلقية كل أخبار العالم""(1).
ولم تأت ريادة هذه المدينة عبر التاريخ الحديث، إنما جاءت ريادتها من عمق التاريخ ونفحاته وصوره المضيئة، وينقل لنا الدكتور فياض حديث الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الصدد، ونص قوله:
"... هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيّين والمرسلين، وقبور غير النبيّين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد السهلة الذي لم يبعث اللّه نبيّاً إلاّ وصلّى فيه، ومنها يظهر عدل اللّه، ومنها يكون قائمه، والقوام من بعده، وهي منازل النبيّين
____________
1- Great Britain Adminstration Reports for 1918 Najaf, Co 696-1
Thomas Lyell The Ins and Outo of Mesoptamia (London 1923), 21-22.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 3
--------------------------------------------------------------------------------
والأوصياء والصالحين"(1).
وحين أراد اللّه عزّ شأنه أن تتكامل أهمية هذه البقعة الطاهرة المطهرة، أن تأخذ أبعاداً ومضامين جهادية وسياسية، هيأ لوصيّة الأمين علي (عليه السلام)، أن يتخذ هذه البقعة المباركة مركزاً لولايته، وبعد تلك المسيرة الظافرة للإمام المبين علي، في ترسيم معالم الدولة الإسلامية، وبينما هو منشغل بمسؤولياته في تلك الظروف الدقيقة شاءت إرادة اللّه أن تختم تلك المسيرة باستشهاد الإمام علي(عليه السلام) لتتشرف هذه البقعة المباركة بضم ضريح لجسده الطاهر، فأضاف لهذه المدينة ميزة خاصة، حين اقترن اسم علي باسمها، ووجودها بوجوده، فأصبحت في ضوء ذلك أكثر تفرداً وأعمق تألقاً وأمضى تأثيراً في المسيرة الإنسانية.
إنّ ضروب سيرة الإمام علي(عليه السلام) تمثل عن جدارة واستحقاق "حضارة أمة في رجل" ولم تأت هذه التسمية من فراغ لأن ضروبها زاخرة بالكثير من العلوم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والفضائل والمحاسن والإنسانية والرحمة والفدائية والإقدام والفروسية والجهاد والزهد والسخاء والكرم والإيثار ومكارم الأخلاق والادارة والسياسة والعقيدة والفلسفة والفقه والتفسير والنحو والصرف وعلم الالهيات والقراءات والكلام والرياضيات والطب والفلك، ولتفرده في جمع صفات الأضداد هذه، استحقت سيرته أن توسم بـ " السيرة المتفردة "، والمتفرد في اللغة تعني الذي لا نظير له. وهكذا أصبح الإمام علي (عليه السلام) أهلا لهذا التفرد، بعد الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). وللّه درّ الشاعر الذي أحسن في تصوير تلك الأضداد في سيرة الإمام، حين قال:
جمعت في صفاتك الأضداد
ولهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاع
فاتك ناسك فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر قط
ولا حاز مثلهنّ العباد
خلق يخجل النسيم من اللطـ
ـف وبأس يذوب منه الجماد
جلّ معناك أن يحيط بك الشعـ
ـر ويحصي صفاتك النقاد
لذا كان من الصعب على الباحث الثاقب أن يدرك غايته وينال شأوه، في
____________
1- د. عبد اللّه الفياض: تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، (بغداد 1970م)، ص: 31.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 4
--------------------------------------------------------------------------------
الإلمام بأبعاد ومضامين السيرة العطرة لحياة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، فذلك ضرب من المحال، وممّا زاد في أهمية سيرته تلك الاضفاءات الرائدة على سيرته العطرة، كونها سيرة شاركت في صنعها ثلاث اردات، ارداة اللّه في اختيار خلقه، وارادة النبي في شد عضده، وارادة الإمام في كنه نفسه، فتفاعلت الإرادات الثلاث، لتصنع تلك السيرة المتفردة، فاللّه عزّ شأنه يقول في علي (وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْناهُ فِي إِمام مُبِين)(1). ففي ذيل تفسير هذه الآية نقلا عن حبر الأمة ابن عباس، عن الإمام علي حين سُئل عن هذه الآية قال: "أنا واللّه الإمام المبين الذي أبين الحق من الباطل، ورثته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)"(2). ويؤكد (صلى الله عليه وآله وسلم)هذا المعنى قائلا: "إنه الإمام الذي أحصى اللّه تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء"(3). ومع أن سيرته كرّم اللّه وجهه تتناغم مع سيرة الأنبياء، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب"(4). فقد تطابقت سيرته مع سيرة نبيه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)كما أكد ذلك أبو بكر حين رأى علياً فقال: " مَن سرّه أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة من رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وأقربه قرابة وأفضله دالة وأعظمه غَناء عن نبيّه فلينظر إلى هذا"(5).
وحين يتحدث عمر بن الخطاب عن علي يقول: "واللّه لولا سيف علي لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها"(6).
ولو وقفنا لبرهة على النص التالي، لما تملكنا مشاعرنا وتحكمنا في مآقي عيوننا، هذا النص الذي قيل في حضرة العدو المخاصم الأوّل للإمام علي، معاوية بن أبي سفيان، ينقله لنا الحافظ أبو نعيم، في حلية الأولياء، فحين دخل الإمامي الجليل (ضرار بن ضمرة الضبابي (رضي الله عنه)) على معاوية بن أبي سفيان، وهو في
____________
1- سورة يس، الآية: 12.
2- تفسير القمي، في ذيل تفسير الآية نقلا عن عبد اللّه بن عباس.
3- معاني الأخبار، بإسانده إلى أبي الجارود.
4- الطبري: ذخائر العقبى، ص: 94.
5- المتقي الهندي: كنز العمال، ج13 / ص: 114، حديث: 36375.
6- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج3 / ص: 116.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 5
--------------------------------------------------------------------------------
الموسم، قال له معاوية: صف لي علياً، قال: أو تعفيني؟ قال: لابدّ أن تصفه لي، قال: " كان واللّه أمير المؤمنين(عليه السلام)، طويل المدى، شديد القوى، كثير الفكرة، غزير العبرة، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطلق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه، ونحن والله مع قربه لا نكلّمه لهيبته، ولا ندنو منه تعظيماً له، فإن ابتسم فعن غير أشر ولا اختيال، وإن نطق فعن الحكمة وفصل الخطاب، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع الغني في باطله، ولا يوئس الضعيف من حقّه، فأشهد لقد رأيته في بعضه مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تملل السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرضت؟ أم لي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد وطول المجاز وبعد السفر، وعظيم المورد".
قال: فوكفت دموع معاوية ما يملكها وهو يقول: هكذا كان علي، فكيف خزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزني عليه واللّه حزن من ذبح واحدها في حجرها، فلا ترقأ دمعتها، ولا تسكن حرارتها(1).
وهكذا شخصية بهذه المواصفات، بقدر ما تجعل الباحث متشوقاً في خوض غمارها، والغوص في أعماقها، بقدر ما يكون متهيباً من ولوجها، خشية عجزه عن رفدها بما تستحق. ورغم اقدامي هذا، إلاّ أنني حينما تصفحت الصحاح الستة ومصادرها المعتمدة، التي وقعت بين يدي، والتي أولت هذه السيرة المتفردة، بالدرس والعناية اللازمتين، شخص أمامي أنه يتعذر عليَّ الإلمام العميق بمكنونات سيرة هذه الشخصية، التي أثرت بصورة واُخرى في المنحى (الانساني الحضاري) ليس الخاص منه فحسب، إنما حتى المنحى الأممي، وهو ما أشار إليه العقاد بقوله: "في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)... لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه
____________
1- أبو نعيم، الحافظ: حلية الأولياء، ج 1 / ص: 84.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 6
--------------------------------------------------------------------------------
الخطاب البليغ، في سيرة الأبطال العظماء، وتثير فيه أقوى ما يثير التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل..."(1).
ووقفة سريعة على جذور الانتساب، يتراءى أمامنا عمق الأصول التي ينتمي إليها الإمام علي (عليه السلام)، فقد جمع الإمام علي المجد من أصوله قبل فروعه، فالأصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والغصن الذي نما بين جوانحه هم بنو هاشم، الذي وصفهم الجاحظ بقطعة بلاغية رائعة تقول إنهم: "ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسرّ كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق ومعدن الفهم، وينبوع العلم"(2).
فالجد الأكبر هو هاشم، تألق المجد بين يديه، وتنامى نبل الأخلاق في أجوائه، وتجسد شرف القصد، وطهارة الضمير في خلجاته، وترامت المواقف الإنسانية في صومعته، فنال العز والسؤدد في أروع صورهما.
أما الجد المباشر عبد المطلب، فهو شيبة الحمد، وعنوان المجد، ونقاء القلب، وروعة الإيمان، ووفاء لا يعادل وشرف لا يدانى، صاحب اليدين الكريمتين اللّتين اتجهتا إلى السماء، مصحوبتين بمناجاة اللّه، تلك المناجات التي رددتها أصداء السماء، واستجابت لها: "اللهم إنّ العبد يمنع رحله، فامنع حلالك فالبيت بيتك والقوم قومك"(3). فاستجاب العلي لرجاءه (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول)(4).
وكان الأب الرؤوف أبو طالب (عبد مناف) شيخ البطحاء، ومهابة الرجال، وعنوان المجد، وسادن الكعبة، وساقي العطاشى من بئر السماء (زمزم)، وناصر الصادق الأمين، في دعوة التوحيد والإيمان، وواهب محمّد القوة والحياة بحمايته من زمرة الكفر والالحاد.
أما الثمرة المباركة، فهي أوّل ثمرة من أبوين هاشميين، نبتت وتبرعمت
____________
1- عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المقدمة، ص: 5.
2- ابن أبي الحديد: م. س، المقدمة، ج4 / ص: 4. نقلا عن: زهر الآداب، ج1 / ص: 59.
3- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 14.
4- سورة الفيل، الآيات: 3 ـ 5.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 7
--------------------------------------------------------------------------------
في رحم فاطمة بنت أسد، السيّدة الفاضلة، بنت عم شيخ الأبطح، وزوجه المصون، وهي الراضية المرضية، التي كرّمها اللّه تكريماً مميزاً، حين أصبحت حاضنة لرعاية سيد الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحين وضعت ابنها علياً في جوف بيت اللّه الحرام، وحين أصبحت من المسلمات المبكرات، وحين كرمها الرسول في موتها، في اعتزاز الأوفياء، حين اضطجع في حفرة قبرها قبل إنزالها بعد أن خلع ثوبه ولفّ به جسدها الطاهر ليخفّف عنها ضغطة القبر، وفي ضوئه نالت فاطمة من اللّه والرسول المكرمات.
وحتى تكتمل أبعاد هذا الأصل وذاك الفرع وهذا الوليد، تمضي إرادة اللّه في قحط يصيب قريشاً، وعلى ما كان عليه أبو طالب من ضيق اليد وكثرة العيال، شاء التكريم الإلهي أن ينتقل علي ويستقر في كنف رعاية ابن عمه محمّد، وهو ابن ست سنوات، ليبدأ طريق الرحمن في هذه السن المبكرة، وليكون هذا الطريق القنطرة المباشرة في تكامل ترسيم معالم سيرته العطرة عبر أحداث الأمة. هكذا هو المحيط الأسري المثالي، الذي أثمر الينع المبارك علياً، فأعظم به من محيط، وأكرم به من رحم وأسعد به من وليد كرّم اللّه وجهه، وأحسن به من كنف للرعاية المحمدية، على طريق الرحمن، كنجم يصاحب القمر محمّداً، لذا يقول عمر بن الخطاب: "كنّا ننظر إلى علي في أيام النبي كما ننظر إلى النجم"(1). وكان علي يفخر بهذه الصحبة والمعية، وحين يتحدث عنها يقول باعتزاز يغمره: "وقد تعلمون موضعي من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه... وكنتُ أتبعه اتباع الفصيل إثر امه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به..."(2).
هكذا كانت بداية ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، أما كيف قام هو بترسيم معالم الدولة العربية الإسلامية، فيأتي في أربعة مباحث، وهو أمر نتركه لتوفيق الهيئة المشرفة على هذه الندوة، بنشر البحوث كاملة، كي يطلع ويفيد منها القارئ الكريم. واللّه من وراء القصد.
____________
1- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 25 و 26.
2- نفس المصدر السابق.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 8
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الأوّل
نشوء الفكر الإمامي السياسي وتكونه،
وترسيم معالم الدولة الإسلامية حين تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة
كان النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يضطلع بمسؤوليات الأمة، وكان يمارس السلطات الدينية والمدنية، وبعد أن استتب الأمر وانقطع خبر السماء، وانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أدى الأمانة الإلهية، تحولت السلطات المدنية والدينية إلى الخلفاء الراشدين الأربعة على التوالي، بالصورة والكيفية المعروفة، ورغم ما صاحبها من اجتهادات وتأويلات وتصرفات وتجاوزات في بعض مفاصلها على ما كان عليه صاحب الدعوة، وهو ما سنتناوله باقتضاب شديد، وبما له علاقة مباشرة بمباحث هذه الرسالة، المهم هنا هو أن الفكر السياسي الإمامي مرّ عبر فاصله الزمني، بأربع مراحل حدثية، ساعدت على انطلاقه وتطوره، والمراحل هي:
المرحلة الاُولى:
وتمثلها حالة التسارع لاستلام السلطة بمجرد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل بعض الأنصار والمهاجرين.
وهو ما حصل في "سقيفة بني ساعدة" وما ترتب جراءه من افرازات لاحقة.
المرحلة الثانية:
وتمثلها حالة الممارسة المباشرة في المبايعة على رؤوس الأشهاد في (ترشيح وانتخاب) الإمام علي للخلافة والتي حصلت في المسجد.
المرحلة الثالثة:
وتمثلها حالة قسوط معاوية بن أبي سفيان عن مبايعة الإمام علي بن أبي طالب، ونكوث بعض المبايعين له، مثل الزبير بن العوام وطلحة، بتشجيع ودعم من عائشة، وتمرد المارقين عليه، وهم الخوارج.
المرحلة الرابعة:
وتمثلها حالة المواجهات التصفوية التي حصلت بحق رموز مدرسة الإمامة وأتباعهم من الشيعة الإمامية على عهد الدولتين الأموية والعباسية.
وخلاصة ما يمكن الخروج به من المرحلتين الاُولى والثانية، في ضوء الفهم الإمامي، أننا أصبحنا أمام حقيقتين ساطعتين هما:
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 9
--------------------------------------------------------------------------------
الحقيقة الاُولى: (الأمر السياسي) الذي أعلنه النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في "غدير خم".
الحقيقة الثانية: (القرار السياسي) الذي اتخذ في "سقيفة بني ساعدة".
ونحن لا نريد هنا أن نخوض في تفصيلات هاتين الحقيقتين إلاّ بالقدر الذي يتطلبه البحث العلمي، لدعم موجبات تكون "الفكر السياسي الإمامي" فإنّ حالة الإعراض عن (الأمر السياسي) الذي جاء على لسان النبي بدليل اعتماد (القرار السياسي) الذي اعتمد في السقيفة، تجعل من غرس أوّل نبتة للفكر السياسي الإمامي أمراً فرضته تلك الظروف. فـ "الأمر السياسي" حين يكون من نبي لا ينطق عن الهوى، فهو لابد يشكل حالة متطورة عن " القرار السياسي الوضعي " من هذا نشأ بمواجهة هذا " القرار الوضعي " حالة ثالثة متطابقة مع الحالة المتطورة الاُولى، من حيث كون الإمامة هي امتداد للنبوة. ويفسر لنا د. ربيع نظرياً ذلك فيقول: "القرار السياسي هو خاتمة لتطور سياسي، ومقدمة لتطور سياسي آخر"(1).
لذا نلاحظ بوضوح أن حالتي الاعراض عن "الأمر السياسي" واعتماد "القرار السياسي" وما صاحبهما من اجتهادات وتجاوزات مختلفة، أدى إلى قيام مدرستين سياسيتين وفقهيتين هما:
1 ـ مدرسة الخلفاء ويمثلها: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان.
2 ـ مدرسة الإمامة ويمثلها: الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده(عليهم السلام).
أما ما يمكن أن نخرج به من المرحلتين الثالثة والرابعة فهو:
1 ـ قيام القاسطين وعلى رأسهم العدو المخاصم معاوية بن أبي سفيان، وقد أدى قسوطهم إلى معركة "صفين" في بلاد الشام، يقول اللّه تعالى: (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(2).
2 ـ قيام الناكثين وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة، بدفع وتشجيع من عائشة، وقد أدى نكثهم لبيعة الإمام علي إلى معركة "الجمل" في البصرة. ويقول
____________
1- د. ربيع حامد: محاضرات في القرار السياسي في إسرائيل، ص: 3.
2- سورة الجن، الآية: 15.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 10
--------------------------------------------------------------------------------
عزّ من قائل: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(1).
3 ـ قيام المارقين وعلى رأسهم ثلة من الذين لبسوا الحق بالباطل وقد أدى مروقهم عن الإمام علي (عليه السلام) إلى معركة "النهروان" في العراق. ويقول سبحانه وتعالى: (يُخادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(2).
وهكذا أصبح امتناع معاوية بن أبي سفيان (والي بلاد الشام) عن مبايعة الخليفة الشرعي خروجاً لا يقومه إلاّ السيف، وحدث ما حدث من قتال في " صفين " وكان الإمام علي(عليه السلام) على رأس جيش الشرعية، أما جيش القاسطين فكان على رأسه معاوية. وختمت المعركة بمهزلة التحكيم المعروفة، حين رفع جيش القاسطين كتاب اللّه فوق رؤوسهم لخداع الأمة، في حين كان النصر قاب قوسين أو أدنى لصالح جيش الشرعية بقيادة علي (عليه السلام)، وقد ولّد هذا الموقف حالة من الاستياء والاستنكار لدى نخبة من المسلمين. ولعل من أهم افرازات هذه الحقبة، تعرية معاوية "دينياً وسياسياً" فحين آلت إليه الخلافة حولها إلى ملك عضوض(3).
ومن هذا يتضح أن الصراع بين مدرسة الإمامة ومناوئيها، لم يكن صراعاً عابراً، إنما كان في جوهره صراع بين فلسفتين سياسيتين وفقهيتين، متقاطعتين تماماً، في النهج والفعل والأثر. فلسفة ترتبط بالقرآن والسنة والنبوية، ارتباطاً لا انفكاك فيه في إطار التطبيق والممارسة، مثلتها "مدرسة الإمامة" وعلى رأسها الإمام علي(عليه السلام). وفلسفة ترتبط بالدنيا وزبرجها وتتقمص تجاوزاً عقيدة الإسلام، لاضفاء الشرعية عليها وعلى ممارستها، لكنها أقرب لروح الجاهلية منها إلى روح الإسلام، وتمثلها "مدرسة الطلقاء" ومن هم على نهجهم، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
وللاستدلال على ذلك لنقارن بين تطلع الفلسفتين صوب السلطة والحكم، ففي الوقت الذي كان الإمام المبين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، على أعلى
____________
1- سورة الفتح، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 9.
3- سيد قطب: م.س.، ص: 176.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 11
--------------------------------------------------------------------------------
جانب من الاستعداد لتولي أمر المسلمين منذ البدء، وبعد تلك المسيرة الطويلة التي تداخلت فيها الاُمور وتشابكت، منذ نزول الوحي والإمام علي يرى نور النبوة وهو في كنف ابن عمّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبدايات الدعوة المحمّدية حين دعـا الرسول عشيرته الأقربين وكان علي أوّل المسلمين، من ثمّ الأتباع والأصحاب، والهجرة إلى المدينة والمؤآخاة، ووضع اللبنات الاُولى لبناء الدولة الإسلامية، حتى حجة الوداع، واعلان الإمامة والولاية لعلي (عليه السلام) ووفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مع بداية عهد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وما تخلله من بعض التجاوزات والاجتهادات، وبالخصوص على عهد خلافة عثمان، وهو ما أدى للثورة عليه وقتله، وهو ما تناولته الكثير من المراجع والمصادر(1). المهم أن تلك الظروف الاستثنائية، جعلت علياً يعزف كل العزوف عن تلبية الدعوة لتولي الخلافة بعد عثمان، وحين كثر عليه الضغط أجابهم كرّم اللّه وجهه قائلا: "دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم منّي أمير"(2).
وهكذا حاول الإمام علي أن يلتمس العذر كي يتخلص من هذه المسؤولية الجسيمة، في تلك الظروف الدقيقة إلاّ أن اصرار القوم سواء منهم الوافدون من وجهاء مصر والعراق واليمن أو اولئك الوجهاء من أهل مكّة والمدينة، على مبايعته على الخلافة، قد جعله في صميم الأحداث، إلاّ أنه لم يقبل الخلافة إلاّ بعد أن أوقع الحجّة على القوم، أنه سائر على نهج القرآن والسنة النبوية الشريفة، وكانت مبايعته وانتخابه على رؤوس الأشهاد في المسجد، لذا قال كرّم اللّه وجهه
____________
1- ـ د. طه حسين: م. س. ص: 77 و 94.
ـ البلاذري: أنساب الأشراف، ج5 / ص: 27، 28، 52.
ـ د. نوري جعفر: علي ومناوئوه، ص: 90 و99.
ـ أحمد الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ج2 / ص: 78، 87.
2- ابن أبي الحديد: م. س.، ج1 / ص269 ـ 270.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 12
--------------------------------------------------------------------------------
قولته المشهورة: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك"(1).
أما الاستدلال على نهج مدرسة الطلقاء فنشير هنا إلى مقولات معاوية رأس هذه المدرسة وهو يفضح نفسه فيما يخص كيفية توليه أمر الخلافة، وجعلها ملكاً عضوضاً، فيقول: "... لا بمحبة وليتها، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"(2)، و"الأرض للّه وأنا خليفة اللّه، فما أخذ من اللّه فهو لي وما تركت منه كان جائزاً لي"(3).
لذا يرى الدكتور الدوري: أنّ انتصار الأمويين يعني انتصار التيار القبلي على التيار الديني(4).
وحين يحدثنا العقاد عن مكنون نفس معاوية يقول: " لم يكن معاوية زاهداً في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان لكن الخلافة كانت زاهدة فيه. فلما جاء عصر الملك طلب الملك، والملك طلبه"(5).
ويعقب المستشرق فلهاوزن، على هذا النهج قائلا: "وكان من السخرية بفكرة الحكومة الثيوقراطية، أن يظهر الأمويون ممثليها الأعلين، فهم كانوا مغتصبين وظلوا كذلك، ولم يكونوا يستندون إلاّ إلى قوتهم الشخصية، إلى قوة أهل الشام ولكن قوتهم لم تستطع قط أن تصير حقاً شرعياً"(6).
ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية
تأليف
عدنان الحاج كاظم عليان
كاتب وباحث عراقي ـ لندن
إعداد
مكتبة الروضة الحيدرية
النجف الأشرف
التوطئة:
مدخل إلى ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه)
تهتم الأمم المتحضرة بالتراث والحضارة، وهو ما أوجبت له عقد الندوات والمهرجانات في تواريخ مختارة. وإنّ هذا الاهتمام، أصبح حالة متقدمة، بدأت تهتم به الأمم المتحضرة على نطاق واضح، لتعكس من خلال تجارب شعوبها وعطاءاتها الإنسانية عبر التاريخ والهدف المركز من هذا الاهتمام هو الانفتاح على شعوب الأمم الأخرى ذات الحضارات المتميزة، وبذلك يتقابل تراث الحضارات فيحصل نوع من التمازج الحضاري، والتناغم التراثي، والتلاقح الفكري، مع احتفاظ كل امّة بخصوصياتها.
وان الندوة العلمية المعقودة عن النجف الأشرف واسهاماتها في الحضارة الإنسانية، لها عبقها ونكهتها المتميزان، ولذلك أكثر من سبب، لأنّ مدينة النجف ليست كأية مدينة من مدن العالم، فهي تتميز على ما سواها كونها جمعت حزمة من العطاءات التراثية والحضارية والروحية والعلمية والجهادية، ذات الأبعاد والمضامين الإنسانية، عبر تاريخها الطويل. لذا جاء انعقاد هذه الندوة في أشهر مدن أورپا وهي (مدينة لندن) في ظرف تتعرض فيه مدينة النجف لحملة (هولاكية) جديدة، تستهدف الفكر والحضارة والتراث العربي والإسلامي، جاء في صميم الأحداث. فلنخبة الأمة من المتصدين لهذه الندوة، التجلة والتقدير الشديدين، وحيث نقف على ريادة هذه المدينة المقدّسة نرى:
انّ ريادتها لم تقتصر على مدن العراق بل تعدتها لتشمل مدن العالم الإسلامي، حين آل إليها موقعها الديني والتراثي والعلمي من تأثيرات كبيرة على حضارات الأمم الأخرى، إضافة لما آل إليها موقعها التأريخي والسياسي من أهمية
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 2
--------------------------------------------------------------------------------
وتأثير كبيرين على مجمل أحداث المنطقة محلياً وإقليمياً ودولياً، خلال هذا القرن. لذا تمتع المسلمون عامة والشيعة الإمامية الإثنا عشرية بخاصة، في كنف هذه المدينة المقدسة، بالطمأنينة والأمان عبر التاريخ، وبالفخر والاعتزاز حين أصبحت هذه المدينة خلال القرنين الأخيرين محط أنظار العالم، فعدا ما يؤمها من ملايين الزوار، فإنّ عشرات الآلاف كانوا يفدون إليها لطلب العلوم العربية والإسلامية، وبالجهاد والفروسية والفدائية، أصبحت هذه المدينة خلال القرن العشرين، المدينة المجاهدة الأولى، عبر انتفاضاتها وثوراتها على طريق الخلاص من الظلم والظالمين.
وقفة تقييم لمدينة النجف في عيون أجنبية في التقرير التالي
"وكانت الأبرز بين مدن العتبات المقدسة هذه مدينة النجف، التي أخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس تأثيراً دينياً وسياسياً هائلاً يتخطى حدود العراق بكثير، وإذ تقع النجف على بعد حوالي 120 ميلاً جنوب بغداد، فإنها أفلتت من السيطرة الحكومية الفعالة طيلة شطر كبير من العهد العثماني، وتجسد وضعها شبه المستقل، وصورتها الذاتية، بوصفها العصب المركزي العظيم للعالم في تصوير الشيعة والكتاب الغربيين لها، على أنها "قلب العالم" وأنها "عالم في مدينة" و "متلقية كل أخبار العالم""(1).
ولم تأت ريادة هذه المدينة عبر التاريخ الحديث، إنما جاءت ريادتها من عمق التاريخ ونفحاته وصوره المضيئة، وينقل لنا الدكتور فياض حديث الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الصدد، ونص قوله:
"... هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيّين والمرسلين، وقبور غير النبيّين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد السهلة الذي لم يبعث اللّه نبيّاً إلاّ وصلّى فيه، ومنها يظهر عدل اللّه، ومنها يكون قائمه، والقوام من بعده، وهي منازل النبيّين
____________
1- Great Britain Adminstration Reports for 1918 Najaf, Co 696-1
Thomas Lyell The Ins and Outo of Mesoptamia (London 1923), 21-22.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 3
--------------------------------------------------------------------------------
والأوصياء والصالحين"(1).
وحين أراد اللّه عزّ شأنه أن تتكامل أهمية هذه البقعة الطاهرة المطهرة، أن تأخذ أبعاداً ومضامين جهادية وسياسية، هيأ لوصيّة الأمين علي (عليه السلام)، أن يتخذ هذه البقعة المباركة مركزاً لولايته، وبعد تلك المسيرة الظافرة للإمام المبين علي، في ترسيم معالم الدولة الإسلامية، وبينما هو منشغل بمسؤولياته في تلك الظروف الدقيقة شاءت إرادة اللّه أن تختم تلك المسيرة باستشهاد الإمام علي(عليه السلام) لتتشرف هذه البقعة المباركة بضم ضريح لجسده الطاهر، فأضاف لهذه المدينة ميزة خاصة، حين اقترن اسم علي باسمها، ووجودها بوجوده، فأصبحت في ضوء ذلك أكثر تفرداً وأعمق تألقاً وأمضى تأثيراً في المسيرة الإنسانية.
إنّ ضروب سيرة الإمام علي(عليه السلام) تمثل عن جدارة واستحقاق "حضارة أمة في رجل" ولم تأت هذه التسمية من فراغ لأن ضروبها زاخرة بالكثير من العلوم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والفضائل والمحاسن والإنسانية والرحمة والفدائية والإقدام والفروسية والجهاد والزهد والسخاء والكرم والإيثار ومكارم الأخلاق والادارة والسياسة والعقيدة والفلسفة والفقه والتفسير والنحو والصرف وعلم الالهيات والقراءات والكلام والرياضيات والطب والفلك، ولتفرده في جمع صفات الأضداد هذه، استحقت سيرته أن توسم بـ " السيرة المتفردة "، والمتفرد في اللغة تعني الذي لا نظير له. وهكذا أصبح الإمام علي (عليه السلام) أهلا لهذا التفرد، بعد الرسول الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). وللّه درّ الشاعر الذي أحسن في تصوير تلك الأضداد في سيرة الإمام، حين قال:
جمعت في صفاتك الأضداد
ولهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاع
فاتك ناسك فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر قط
ولا حاز مثلهنّ العباد
خلق يخجل النسيم من اللطـ
ـف وبأس يذوب منه الجماد
جلّ معناك أن يحيط بك الشعـ
ـر ويحصي صفاتك النقاد
لذا كان من الصعب على الباحث الثاقب أن يدرك غايته وينال شأوه، في
____________
1- د. عبد اللّه الفياض: تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، (بغداد 1970م)، ص: 31.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 4
--------------------------------------------------------------------------------
الإلمام بأبعاد ومضامين السيرة العطرة لحياة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، فذلك ضرب من المحال، وممّا زاد في أهمية سيرته تلك الاضفاءات الرائدة على سيرته العطرة، كونها سيرة شاركت في صنعها ثلاث اردات، ارداة اللّه في اختيار خلقه، وارادة النبي في شد عضده، وارادة الإمام في كنه نفسه، فتفاعلت الإرادات الثلاث، لتصنع تلك السيرة المتفردة، فاللّه عزّ شأنه يقول في علي (وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْناهُ فِي إِمام مُبِين)(1). ففي ذيل تفسير هذه الآية نقلا عن حبر الأمة ابن عباس، عن الإمام علي حين سُئل عن هذه الآية قال: "أنا واللّه الإمام المبين الذي أبين الحق من الباطل، ورثته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)"(2). ويؤكد (صلى الله عليه وآله وسلم)هذا المعنى قائلا: "إنه الإمام الذي أحصى اللّه تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء"(3). ومع أن سيرته كرّم اللّه وجهه تتناغم مع سيرة الأنبياء، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب"(4). فقد تطابقت سيرته مع سيرة نبيه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)كما أكد ذلك أبو بكر حين رأى علياً فقال: " مَن سرّه أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة من رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وأقربه قرابة وأفضله دالة وأعظمه غَناء عن نبيّه فلينظر إلى هذا"(5).
وحين يتحدث عمر بن الخطاب عن علي يقول: "واللّه لولا سيف علي لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها"(6).
ولو وقفنا لبرهة على النص التالي، لما تملكنا مشاعرنا وتحكمنا في مآقي عيوننا، هذا النص الذي قيل في حضرة العدو المخاصم الأوّل للإمام علي، معاوية بن أبي سفيان، ينقله لنا الحافظ أبو نعيم، في حلية الأولياء، فحين دخل الإمامي الجليل (ضرار بن ضمرة الضبابي (رضي الله عنه)) على معاوية بن أبي سفيان، وهو في
____________
1- سورة يس، الآية: 12.
2- تفسير القمي، في ذيل تفسير الآية نقلا عن عبد اللّه بن عباس.
3- معاني الأخبار، بإسانده إلى أبي الجارود.
4- الطبري: ذخائر العقبى، ص: 94.
5- المتقي الهندي: كنز العمال، ج13 / ص: 114، حديث: 36375.
6- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج3 / ص: 116.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 5
--------------------------------------------------------------------------------
الموسم، قال له معاوية: صف لي علياً، قال: أو تعفيني؟ قال: لابدّ أن تصفه لي، قال: " كان واللّه أمير المؤمنين(عليه السلام)، طويل المدى، شديد القوى، كثير الفكرة، غزير العبرة، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطلق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه، ونحن والله مع قربه لا نكلّمه لهيبته، ولا ندنو منه تعظيماً له، فإن ابتسم فعن غير أشر ولا اختيال، وإن نطق فعن الحكمة وفصل الخطاب، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع الغني في باطله، ولا يوئس الضعيف من حقّه، فأشهد لقد رأيته في بعضه مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته، يتململ تملل السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرضت؟ أم لي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد وطول المجاز وبعد السفر، وعظيم المورد".
قال: فوكفت دموع معاوية ما يملكها وهو يقول: هكذا كان علي، فكيف خزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزني عليه واللّه حزن من ذبح واحدها في حجرها، فلا ترقأ دمعتها، ولا تسكن حرارتها(1).
وهكذا شخصية بهذه المواصفات، بقدر ما تجعل الباحث متشوقاً في خوض غمارها، والغوص في أعماقها، بقدر ما يكون متهيباً من ولوجها، خشية عجزه عن رفدها بما تستحق. ورغم اقدامي هذا، إلاّ أنني حينما تصفحت الصحاح الستة ومصادرها المعتمدة، التي وقعت بين يدي، والتي أولت هذه السيرة المتفردة، بالدرس والعناية اللازمتين، شخص أمامي أنه يتعذر عليَّ الإلمام العميق بمكنونات سيرة هذه الشخصية، التي أثرت بصورة واُخرى في المنحى (الانساني الحضاري) ليس الخاص منه فحسب، إنما حتى المنحى الأممي، وهو ما أشار إليه العقاد بقوله: "في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)... لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه
____________
1- أبو نعيم، الحافظ: حلية الأولياء، ج 1 / ص: 84.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 6
--------------------------------------------------------------------------------
الخطاب البليغ، في سيرة الأبطال العظماء، وتثير فيه أقوى ما يثير التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل..."(1).
ووقفة سريعة على جذور الانتساب، يتراءى أمامنا عمق الأصول التي ينتمي إليها الإمام علي (عليه السلام)، فقد جمع الإمام علي المجد من أصوله قبل فروعه، فالأصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، والغصن الذي نما بين جوانحه هم بنو هاشم، الذي وصفهم الجاحظ بقطعة بلاغية رائعة تقول إنهم: "ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسرّ كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق ومعدن الفهم، وينبوع العلم"(2).
فالجد الأكبر هو هاشم، تألق المجد بين يديه، وتنامى نبل الأخلاق في أجوائه، وتجسد شرف القصد، وطهارة الضمير في خلجاته، وترامت المواقف الإنسانية في صومعته، فنال العز والسؤدد في أروع صورهما.
أما الجد المباشر عبد المطلب، فهو شيبة الحمد، وعنوان المجد، ونقاء القلب، وروعة الإيمان، ووفاء لا يعادل وشرف لا يدانى، صاحب اليدين الكريمتين اللّتين اتجهتا إلى السماء، مصحوبتين بمناجاة اللّه، تلك المناجات التي رددتها أصداء السماء، واستجابت لها: "اللهم إنّ العبد يمنع رحله، فامنع حلالك فالبيت بيتك والقوم قومك"(3). فاستجاب العلي لرجاءه (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول)(4).
وكان الأب الرؤوف أبو طالب (عبد مناف) شيخ البطحاء، ومهابة الرجال، وعنوان المجد، وسادن الكعبة، وساقي العطاشى من بئر السماء (زمزم)، وناصر الصادق الأمين، في دعوة التوحيد والإيمان، وواهب محمّد القوة والحياة بحمايته من زمرة الكفر والالحاد.
أما الثمرة المباركة، فهي أوّل ثمرة من أبوين هاشميين، نبتت وتبرعمت
____________
1- عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المقدمة، ص: 5.
2- ابن أبي الحديد: م. س، المقدمة، ج4 / ص: 4. نقلا عن: زهر الآداب، ج1 / ص: 59.
3- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 14.
4- سورة الفيل، الآيات: 3 ـ 5.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 7
--------------------------------------------------------------------------------
في رحم فاطمة بنت أسد، السيّدة الفاضلة، بنت عم شيخ الأبطح، وزوجه المصون، وهي الراضية المرضية، التي كرّمها اللّه تكريماً مميزاً، حين أصبحت حاضنة لرعاية سيد الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحين وضعت ابنها علياً في جوف بيت اللّه الحرام، وحين أصبحت من المسلمات المبكرات، وحين كرمها الرسول في موتها، في اعتزاز الأوفياء، حين اضطجع في حفرة قبرها قبل إنزالها بعد أن خلع ثوبه ولفّ به جسدها الطاهر ليخفّف عنها ضغطة القبر، وفي ضوئه نالت فاطمة من اللّه والرسول المكرمات.
وحتى تكتمل أبعاد هذا الأصل وذاك الفرع وهذا الوليد، تمضي إرادة اللّه في قحط يصيب قريشاً، وعلى ما كان عليه أبو طالب من ضيق اليد وكثرة العيال، شاء التكريم الإلهي أن ينتقل علي ويستقر في كنف رعاية ابن عمه محمّد، وهو ابن ست سنوات، ليبدأ طريق الرحمن في هذه السن المبكرة، وليكون هذا الطريق القنطرة المباشرة في تكامل ترسيم معالم سيرته العطرة عبر أحداث الأمة. هكذا هو المحيط الأسري المثالي، الذي أثمر الينع المبارك علياً، فأعظم به من محيط، وأكرم به من رحم وأسعد به من وليد كرّم اللّه وجهه، وأحسن به من كنف للرعاية المحمدية، على طريق الرحمن، كنجم يصاحب القمر محمّداً، لذا يقول عمر بن الخطاب: "كنّا ننظر إلى علي في أيام النبي كما ننظر إلى النجم"(1). وكان علي يفخر بهذه الصحبة والمعية، وحين يتحدث عنها يقول باعتزاز يغمره: "وقد تعلمون موضعي من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه... وكنتُ أتبعه اتباع الفصيل إثر امه، يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به..."(2).
هكذا كانت بداية ترسيم معالم سيرة الإمام المبين علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه، أما كيف قام هو بترسيم معالم الدولة العربية الإسلامية، فيأتي في أربعة مباحث، وهو أمر نتركه لتوفيق الهيئة المشرفة على هذه الندوة، بنشر البحوث كاملة، كي يطلع ويفيد منها القارئ الكريم. واللّه من وراء القصد.
____________
1- محمّد بحر العلوم: في رحاب آل البيت، ص: 25 و 26.
2- نفس المصدر السابق.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 8
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الأوّل
نشوء الفكر الإمامي السياسي وتكونه،
وترسيم معالم الدولة الإسلامية حين تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة
كان النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يضطلع بمسؤوليات الأمة، وكان يمارس السلطات الدينية والمدنية، وبعد أن استتب الأمر وانقطع خبر السماء، وانتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أدى الأمانة الإلهية، تحولت السلطات المدنية والدينية إلى الخلفاء الراشدين الأربعة على التوالي، بالصورة والكيفية المعروفة، ورغم ما صاحبها من اجتهادات وتأويلات وتصرفات وتجاوزات في بعض مفاصلها على ما كان عليه صاحب الدعوة، وهو ما سنتناوله باقتضاب شديد، وبما له علاقة مباشرة بمباحث هذه الرسالة، المهم هنا هو أن الفكر السياسي الإمامي مرّ عبر فاصله الزمني، بأربع مراحل حدثية، ساعدت على انطلاقه وتطوره، والمراحل هي:
المرحلة الاُولى:
وتمثلها حالة التسارع لاستلام السلطة بمجرد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل بعض الأنصار والمهاجرين.
وهو ما حصل في "سقيفة بني ساعدة" وما ترتب جراءه من افرازات لاحقة.
المرحلة الثانية:
وتمثلها حالة الممارسة المباشرة في المبايعة على رؤوس الأشهاد في (ترشيح وانتخاب) الإمام علي للخلافة والتي حصلت في المسجد.
المرحلة الثالثة:
وتمثلها حالة قسوط معاوية بن أبي سفيان عن مبايعة الإمام علي بن أبي طالب، ونكوث بعض المبايعين له، مثل الزبير بن العوام وطلحة، بتشجيع ودعم من عائشة، وتمرد المارقين عليه، وهم الخوارج.
المرحلة الرابعة:
وتمثلها حالة المواجهات التصفوية التي حصلت بحق رموز مدرسة الإمامة وأتباعهم من الشيعة الإمامية على عهد الدولتين الأموية والعباسية.
وخلاصة ما يمكن الخروج به من المرحلتين الاُولى والثانية، في ضوء الفهم الإمامي، أننا أصبحنا أمام حقيقتين ساطعتين هما:
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 9
--------------------------------------------------------------------------------
الحقيقة الاُولى: (الأمر السياسي) الذي أعلنه النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في "غدير خم".
الحقيقة الثانية: (القرار السياسي) الذي اتخذ في "سقيفة بني ساعدة".
ونحن لا نريد هنا أن نخوض في تفصيلات هاتين الحقيقتين إلاّ بالقدر الذي يتطلبه البحث العلمي، لدعم موجبات تكون "الفكر السياسي الإمامي" فإنّ حالة الإعراض عن (الأمر السياسي) الذي جاء على لسان النبي بدليل اعتماد (القرار السياسي) الذي اعتمد في السقيفة، تجعل من غرس أوّل نبتة للفكر السياسي الإمامي أمراً فرضته تلك الظروف. فـ "الأمر السياسي" حين يكون من نبي لا ينطق عن الهوى، فهو لابد يشكل حالة متطورة عن " القرار السياسي الوضعي " من هذا نشأ بمواجهة هذا " القرار الوضعي " حالة ثالثة متطابقة مع الحالة المتطورة الاُولى، من حيث كون الإمامة هي امتداد للنبوة. ويفسر لنا د. ربيع نظرياً ذلك فيقول: "القرار السياسي هو خاتمة لتطور سياسي، ومقدمة لتطور سياسي آخر"(1).
لذا نلاحظ بوضوح أن حالتي الاعراض عن "الأمر السياسي" واعتماد "القرار السياسي" وما صاحبهما من اجتهادات وتجاوزات مختلفة، أدى إلى قيام مدرستين سياسيتين وفقهيتين هما:
1 ـ مدرسة الخلفاء ويمثلها: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان.
2 ـ مدرسة الإمامة ويمثلها: الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده(عليهم السلام).
أما ما يمكن أن نخرج به من المرحلتين الثالثة والرابعة فهو:
1 ـ قيام القاسطين وعلى رأسهم العدو المخاصم معاوية بن أبي سفيان، وقد أدى قسوطهم إلى معركة "صفين" في بلاد الشام، يقول اللّه تعالى: (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(2).
2 ـ قيام الناكثين وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة، بدفع وتشجيع من عائشة، وقد أدى نكثهم لبيعة الإمام علي إلى معركة "الجمل" في البصرة. ويقول
____________
1- د. ربيع حامد: محاضرات في القرار السياسي في إسرائيل، ص: 3.
2- سورة الجن، الآية: 15.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 10
--------------------------------------------------------------------------------
عزّ من قائل: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(1).
3 ـ قيام المارقين وعلى رأسهم ثلة من الذين لبسوا الحق بالباطل وقد أدى مروقهم عن الإمام علي (عليه السلام) إلى معركة "النهروان" في العراق. ويقول سبحانه وتعالى: (يُخادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(2).
وهكذا أصبح امتناع معاوية بن أبي سفيان (والي بلاد الشام) عن مبايعة الخليفة الشرعي خروجاً لا يقومه إلاّ السيف، وحدث ما حدث من قتال في " صفين " وكان الإمام علي(عليه السلام) على رأس جيش الشرعية، أما جيش القاسطين فكان على رأسه معاوية. وختمت المعركة بمهزلة التحكيم المعروفة، حين رفع جيش القاسطين كتاب اللّه فوق رؤوسهم لخداع الأمة، في حين كان النصر قاب قوسين أو أدنى لصالح جيش الشرعية بقيادة علي (عليه السلام)، وقد ولّد هذا الموقف حالة من الاستياء والاستنكار لدى نخبة من المسلمين. ولعل من أهم افرازات هذه الحقبة، تعرية معاوية "دينياً وسياسياً" فحين آلت إليه الخلافة حولها إلى ملك عضوض(3).
ومن هذا يتضح أن الصراع بين مدرسة الإمامة ومناوئيها، لم يكن صراعاً عابراً، إنما كان في جوهره صراع بين فلسفتين سياسيتين وفقهيتين، متقاطعتين تماماً، في النهج والفعل والأثر. فلسفة ترتبط بالقرآن والسنة والنبوية، ارتباطاً لا انفكاك فيه في إطار التطبيق والممارسة، مثلتها "مدرسة الإمامة" وعلى رأسها الإمام علي(عليه السلام). وفلسفة ترتبط بالدنيا وزبرجها وتتقمص تجاوزاً عقيدة الإسلام، لاضفاء الشرعية عليها وعلى ممارستها، لكنها أقرب لروح الجاهلية منها إلى روح الإسلام، وتمثلها "مدرسة الطلقاء" ومن هم على نهجهم، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
وللاستدلال على ذلك لنقارن بين تطلع الفلسفتين صوب السلطة والحكم، ففي الوقت الذي كان الإمام المبين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، على أعلى
____________
1- سورة الفتح، الآية: 10.
2- سورة البقرة، الآية: 9.
3- سيد قطب: م.س.، ص: 176.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 11
--------------------------------------------------------------------------------
جانب من الاستعداد لتولي أمر المسلمين منذ البدء، وبعد تلك المسيرة الطويلة التي تداخلت فيها الاُمور وتشابكت، منذ نزول الوحي والإمام علي يرى نور النبوة وهو في كنف ابن عمّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبدايات الدعوة المحمّدية حين دعـا الرسول عشيرته الأقربين وكان علي أوّل المسلمين، من ثمّ الأتباع والأصحاب، والهجرة إلى المدينة والمؤآخاة، ووضع اللبنات الاُولى لبناء الدولة الإسلامية، حتى حجة الوداع، واعلان الإمامة والولاية لعلي (عليه السلام) ووفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مع بداية عهد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وما تخلله من بعض التجاوزات والاجتهادات، وبالخصوص على عهد خلافة عثمان، وهو ما أدى للثورة عليه وقتله، وهو ما تناولته الكثير من المراجع والمصادر(1). المهم أن تلك الظروف الاستثنائية، جعلت علياً يعزف كل العزوف عن تلبية الدعوة لتولي الخلافة بعد عثمان، وحين كثر عليه الضغط أجابهم كرّم اللّه وجهه قائلا: "دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم منّي أمير"(2).
وهكذا حاول الإمام علي أن يلتمس العذر كي يتخلص من هذه المسؤولية الجسيمة، في تلك الظروف الدقيقة إلاّ أن اصرار القوم سواء منهم الوافدون من وجهاء مصر والعراق واليمن أو اولئك الوجهاء من أهل مكّة والمدينة، على مبايعته على الخلافة، قد جعله في صميم الأحداث، إلاّ أنه لم يقبل الخلافة إلاّ بعد أن أوقع الحجّة على القوم، أنه سائر على نهج القرآن والسنة النبوية الشريفة، وكانت مبايعته وانتخابه على رؤوس الأشهاد في المسجد، لذا قال كرّم اللّه وجهه
____________
1- ـ د. طه حسين: م. س. ص: 77 و 94.
ـ البلاذري: أنساب الأشراف، ج5 / ص: 27، 28، 52.
ـ د. نوري جعفر: علي ومناوئوه، ص: 90 و99.
ـ أحمد الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ج2 / ص: 78، 87.
2- ابن أبي الحديد: م. س.، ج1 / ص269 ـ 270.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 12
--------------------------------------------------------------------------------
قولته المشهورة: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك"(1).
أما الاستدلال على نهج مدرسة الطلقاء فنشير هنا إلى مقولات معاوية رأس هذه المدرسة وهو يفضح نفسه فيما يخص كيفية توليه أمر الخلافة، وجعلها ملكاً عضوضاً، فيقول: "... لا بمحبة وليتها، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"(2)، و"الأرض للّه وأنا خليفة اللّه، فما أخذ من اللّه فهو لي وما تركت منه كان جائزاً لي"(3).
لذا يرى الدكتور الدوري: أنّ انتصار الأمويين يعني انتصار التيار القبلي على التيار الديني(4).
وحين يحدثنا العقاد عن مكنون نفس معاوية يقول: " لم يكن معاوية زاهداً في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان لكن الخلافة كانت زاهدة فيه. فلما جاء عصر الملك طلب الملك، والملك طلبه"(5).
ويعقب المستشرق فلهاوزن، على هذا النهج قائلا: "وكان من السخرية بفكرة الحكومة الثيوقراطية، أن يظهر الأمويون ممثليها الأعلين، فهم كانوا مغتصبين وظلوا كذلك، ولم يكونوا يستندون إلاّ إلى قوتهم الشخصية، إلى قوة أهل الشام ولكن قوتهم لم تستطع قط أن تصير حقاً شرعياً"(6).
الأربعاء سبتمبر 14, 2016 1:46 am من طرف المدير
» العدد السادس اليهود في حركة مايس و الفرهود المفتعل
السبت أغسطس 27, 2016 2:33 pm من طرف المدير
» العدد الخامس اليهود اثناء الحكم الملكي في العراق
الخميس أغسطس 25, 2016 2:14 am من طرف المدير
» العدد الرابع اليهود في ظل الاحتلال الانكليزي على العراق.
الخميس أغسطس 25, 2016 2:12 am من طرف المدير
» العدد الثالث اليهود في ظل السيطرة العثمانية على العراق .
الأربعاء أغسطس 17, 2016 4:31 am من طرف المدير
» الحركة الصهيونية والتهجير الاجباري في العراق
الخميس أغسطس 11, 2016 2:49 am من طرف المدير
» العدد الثاني نبذة مختصرة عن تاريخ يهود العراق القديم
الأربعاء أغسطس 10, 2016 7:21 am من طرف المدير
» تصريح امير قبيلة خفاجة بشأن الموقف من الشخصيات السياسية والعشائرية
الثلاثاء أغسطس 02, 2016 6:21 pm من طرف المدير
» العدد الاول دولة الفكر الصهيوني ومسالة القومية اليهودية
الثلاثاء أغسطس 02, 2016 11:45 am من طرف المدير